في عالم تطوير التقنية، قد يكون من المغري للحكومات أن تستثمر في شركة أو مشروع واحد واعد، مستشهدة في ذلك بالكفاءة المالية وتوحيد الجهود كأساس منطقي. ومع ذلك، فإن هذا النهج، المعروف باسم "الاعتماد على مصدر واحد"، يمكن أن يشكل مخاطرة كبيرة على التقدم التقني للدول. ولقد أظهرت لنا التجارب السابقة أن تنويع الاستثمارات عبر العديد من المبادرات المتنافسة يمكن أن يؤدي إلى نتائج أسرع وأقل مخاطر وتكلفة بكثير، حيث إن هذه المنهجية توفر الضوابط والتوازنات للكشف عن المشكلات مبكرًا والتحوط ضد الصعوبات غير المتوقعة. لعلنا في هذه العجالة نستعرض بعض الأمثلة العالمية المشهورة، التي أدت إلى كارثة للطموحات التقنية للدولة وتكاليف باهظة. طائرة كونكورد الأسرع من الصوت كانت طائرة كونكورد الأسرع من الصوت مشروعًا مشتركًا بين الحكومتين البريطانية والفرنسية، لقد راهنتا بشدة على نجاح الطائرة، لكن التكاليف المرتفعة والمشكلات الفنية حدت بشدة من قدرتها على البقاء، حيث السعي لتوحيد الجهود ورفع كفاءة الإنفاق كان هاجس القيادات، لذا تركز العمل مع جهة واحدة وتصميم أحادي، بدلاً من السعي وراء عدد من التصاميم المتنافسة وجهات متعددة، والتي من الممكن أن تظهر طائرة أسرع من الصوت أكثر استدامة. وبدلاً من ذلك، أصبح مشروع كونكورد مثالاً على إمكانية أن يؤدي الاعتماد على مصدر واحد إلى خسائر مالية كبيرة وفرص ضائعة للتقدم التقني وإضاعة الفرصة الاستثمارية. برنامج المركبة الفضائية القمرية لونوخود السوفيتي كان برنامج المركبة الفضائية القمرية لونوخود التابع للاتحاد السوفييتي حالة أخرى من التبعية أحادية المصدر التي انحرفت عن مسارها. استثمر اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية بكثافة في هذه المركبات الجوالة، والتي صممت لاستكشاف سطح القمر. ومع ذلك، واجهت المركبة الفضائية لونوخود العديد من الصعوبات التقنية، كما أدى افتقار برنامج الفضاء السوفيتي إلى التنوع إلى الحد من احتمالات نجاحه، من خلال وضع كل رهاناتهم على هذا المشروع الفردي، فقد أضاع برنامج الفضاء للاتحاد السوفيتي فرصًا بديلة لاستكشاف القمر. برنامج مكوك الفضاء كان الإعلان عن برنامج مكوك الفضاء التابع لناسا خطوة رئيسة لاستكشاف الفضاء. ومع ذلك، فقد أصبح في النهاية رمزًا لمخاطر الاعتماد على مصدر واحد، كان القصد من مكوك الفضاء توفير مركبة فعالة من حيث التكلفة وقابلة لإعادة الاستخدام لإطلاق الأقمار الصناعية وإجراء البحوث في الفضاء، لسوء الحظ، كان البرنامج يعاني من مشكلات فنية وتكاليف باهظة وحوادث مأساوية، من خلال التركيز بشكل أحادي على برنامج المكوك فقط، فقد أضاعت وكالة ناسا فرصًا للاستثمار في التقنيات والأساليب البديلة التي كان من الممكن أن تجعل استكشاف الفضاء أكثر استدامة وفعالية. في عالم تقوده الكفاءة المالية بشكل متزايد، من السهل التقوقع في فخ الكفاءة المالية قصيرة الأجل على حساب الاستدامة طويلة الأجل. ومع ذلك، يجب على الخبير الاقتصادي النظر في الآثار الأوسع لمثل هذه القرارات، لا سيما عندما يتعلق الأمر بتطوير التقنية، الغاية من تصميم برنامج مكوك الفضاء، الذي كان نشطًا منذ عام 1981م إلى عام 2011م، كانت حلاً فعالاً من حيث التكلفة وقابلاً لإعادة الاستخدام لرحلات الفضاء المأهولة. ومع ذلك، فإن اعتماده على تصميم واحد ومصدر تقني واحد، ترك البرنامج عرضة لعدد لا يحصى له من المشكلات الفنية والتكاليف الباهظة والحوادث المأساوية، مثل كارثتي تشالنجر وكولومبيا. وأثبت هذا التركيز المفرط على الكفاءة المالية، على حساب نهج أكثر تنوع، في النهاية العائق الأساسي أمام تقدم ناسا. وإدراكًا للحاجة إلى الابتعاد عن الاعتماد على مصدر واحد، تبنت وكالة ناسا برنامجًا جديدًا سعى إلى الاستثمار في التقنيات والأساليب البديلة. من خلال فتح المجال أمام العديد من الشركات الخاصة، مثل: SpaceX و Boeing و Blue Origin، والتعاقد مع الثلاث شركات معاً في آن واحد وللمهمة نفسها -وهذه الطريقة تعتبر كُفراً في عُرف العقيدة المحاسبية-، وبهذا عززت الوكالة المنافسة، بل وعززت الابتكار أيضًا. وقد أدى هذا التحول في الاستراتيجية إلى إنجازات ضخمة، بما في ذلك البعثات المأهولة الناجحة إلى محطة الفضاء الدولية، وتطوير تقنية الصواريخ القابلة لإعادة الاستخدام، وعلاوة على ذلك تقليل التكاليف بنسب خرافية؛ تصل إلى أقل من عُشر تكلفة برنامج المكوك، أي حذف صفر من رقم التكلفة، فعندما تقود برامج التقنية عقلية الابتكار تكون النتائج مبهرة. وتمتد فوائد هذه المنهجية إلى ما هو أبعد من التخفيض الهائل في التكلفة وتحسين معدلات نجاح المهمة. حيث يعزز التنوع التقني صمود سلاسل الإمداد، لأن فشل تقنية أو شركة واحدة لا يؤدي إلى كارثة للصناعة بأكملها، وهذا بدوره يخلق بيئة أكثر استقرارًا للتقدم العلمي والنمو الاقتصادي. الفكر النمطي على الرغم من هذه المنهجية وطريقة التفكير تتناقض مع العقيدة المحاسبية، ولكن يجب على الخبير الاقتصادي أن يقدم قضية الاستدامة طويلة الأجل والابتكار على الكفاءة المالية قصيرة الأجل، من خلال تبني منهجية أكثر تنوعًا لتطوير التقنية، لتجنب مخاطر الاعتماد على مصدر واحد، كما يتضح من برنامج مكوك الفضاء التابع لناسا، لجني ثمار صناعة مزدهرة. عبر هذه الأمثلة، يظهر نمط رئيس: تضع الحكومات "كل بيضها" في برامج طموحة تقنيًا، ولكنها في النهاية نقطة واحدة تعزلها من الفشل. وقد أدى هذا النهج مرارًا وتكرارًا إلى إخفاقات باهظة التكلفة وضياع فرص للتقدم. وفي المقابل، كان من الممكن أن يوفر الاستثمار في مبادرات منافسة متعددة، سواء في القطاع الخاص أو الجامعات أو الفروع الحكومية الأخرى، توازنات للكشف عن المشكلات في وقت مبكر والتحوط من الصعوبات غير المتوقعة. لا يمكن المبالغة في مخاطر الاعتماد على نقطة واحدة للفشل في استراتيجية تطوير التقنية، يجب أن نتعلم من هذه الأمثلة التاريخية وأن نتجنب وضع الموارد في مشروع أو شركة واحدة، بغض النظر عن كفاءتها المالية المحتملة والمتصورة، والتعاقد مع الثلاث شركات معاً في آن واحد وللمهمة نفسها قد يبدو لعقلية المحاسب أنه عمل غير منطقي وغير مبرر، ولكن تعلمنا من التاريخ أن مثل هذه الكفاءات المالية أدت إلى خسائر مالية فادحة، بل إن الخسائر المعنوية مثلاً لتوقف أميركا عن الصعود للفضاء لمدة عشر سنوات كانت لها أكثر ألماً من الخسائر المالية. وبدلاً من ذلك، يجب أن نشجع الاستثمارات المتنوعة في التقنية والشركات، لتعزيز فرص النجاح بشكل كبير وتعزيز منظومة ابتكار أكثر مرونة وقابلية للتكيف. قيادات بعيدة النظر في العديد من المنظمات، لا تزال عقلية الفكر المحاسبي لرفع الكفاءة المالية قصيرة الأجل تسيطر على قرارات المنظمة، وبحجة أن منهجية تعدد المبادرات لا تنطبق على الدول الصغيرة والمنظمات الصغيرة. ومع ذلك، فإن هذه المنهجية جزء لا يتجزأ من طبيعة التطور التقني، إذا لم نطبق هذه المنهجية، فلا نستغرب إذا جنينا الأخطاء المكلفة نفسها. في المقابل، نشاهد قيادات رؤية المملكة العربية السعودية 2030، ذات بُعد النظر وغير مثقلة بالعقلية المحاسبية، كما شاهدنا في مهمة الفضاء السعودية الأخيرة إلى محطة الفضاء الدولية. اختار برنامج رحلات الفضاء السعودي أربعة مرشحين للتدريب، اثنان منهم -علي القرني وريانة برناوي- أكملا المهمة -بتوفيق من الله-، حيث تدرب أيضاً المرشحان الآخران -مريم فردوس وعلي الغامدي- على جميع متطلبات المهمة كأعضاء طاقم احتياطي يمكن أن يحلوا محلهم إذا لزم الأمر. فالقادة بعيدو النظر لهم نظرة ثاقبة في تقديم أولوية لضمان المكاسب طويلة الأجل على التوفير قصير الأجل، مع إدراك لمخاطر النقطة الواحدة للفشل، فهم ليسوا مدفوعين بشعار "توحيد الموارد" لتحقيق الكفاءة المالية من خلال تدريب اثنين من المرشحين فقط. وبدلاً من ذلك، ولأنهم على فهم واستيعاب لأهمية الاستثمار في أفراد الطاقم الاحتياطي لتقليل المخاطر، وبهذا الفكر القيادي تكللت مهمة الفضاء السعودية بالنجاح بحمد الله وتوفيقه.