حياة عريضة عاشها الأديب والشاعر الكبير الأستاذ عبدالله بن عبدالعزيز بن إدريس -رحمه الله- ومجد مؤثل حققه في دنياه، لقد كان حضوره بيننا ملء السمع والبصر، فقد علت به المناصب وتسامت بشعره المنابر، وتهافتت عليه آلة الإعلام، وجال في بلاد الله الواسعة مُشرِّقاً ومُغرِّباً، كذلك انقادت له الجوائز مثنى وثلاث ورباع، وقبل ذلك وبعده حاز حباً من الناس وتقديراً بينهم، وهذا كرم لا يحقق لأحد إلا لمن أوتي بسطة في العلم وسعة في الفضل وكرماً في الأخلاق. ولد ابن إدريس عام (1347ه = 1924م) في إحدى قرى نجد يقال لها "حَرْمَة" من إقليم سدير في أسرة متوسطة الحال امتهن معظم رجالها مهنة الفلاحة مع صلاح مشهود واستقامة معهودة ونزوع نحو الحفاظ على التقاليد الدينية السائدة في تلك الحقبة، فأبوه الشيخ عبدالعزيز زامل بن إدريس كان يتردد على حلقات الشيخ عبدالله العنقري العلمية بعد فراغه من أعماله الزراعية، أما أمه فهي كأغلب نساء القرية تقوم على شأن بيتها وترعى أبناءها حق الرعاية. شب الفتى عبدالله في بيت المحبة فيه سائدة، والاحترام قائم بين أفراده فلما نزعت نفسه نحو العلم، ما جعل والده يلحقه بكتَّاب القرية عند الشيخ عثمان بن سليمان فأظهر نجابة ونُجْحاً وفي تلك الفترة افتتحت ب"حرمة" مدرسة جديدة، فما كان من فتانا إلا أن يكمل بها تعليمه في الفقه واللغة والحساب والحديث مع حفظه للقرآن، فحقق لنفسه بعض ما يصبو إليه على يد شيخة عبدالعزيز العثمان السليمان، حتى أنه استطاع أن يقرأ على جماعة المسجد بعضاً من كتب الوعظ والإرشاد. كانت الرياض في ستينات القرن الماضي على موعد مع المجد فالحداثة والحضارة تطرق أبوابها مثلها مثل ما مس قبلها مدن الحجاز، فملامح التمدن أوشكت على البروز، فافتتحت بها عددٌ من المدارس إلى جانب إنشاء المعهد العلمي السعودي الذي شكل افتتاحه ضرباً جديداً في أساليب التعليم الحديث في نجد، كل ذلك مهد للشاب عبدالله أن يهبط العاصمة الجديدة عام (1358ه) لينال قسطاً كبيراً من العلم على أيدي نخبة من علماء نجد وشيوخها، يتقدمهم مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وأخوه الشيخ عبداللطيف وغيرهما ممن كانوا يقيمون حلقات التدريس العلمية في جوامع الرياض، ومع مرور الأيام والليالي ازداد طموح هذا الشاب فارتأى أن يلتحق بالمعهد العلمي السعودي ليمكث فيه سنواته المطلوبة وينهل من أساتيذ كبار منهم المشايخ حمد الجاسر وعبدالرزاق عفيفي وعبدالعزيز بن باز وعبداللطيف سرحان ومحمد أمين الشنقيطي، ليتخرج فيه وقد نال شهادة كبرى أهلته ليكون أحد صناع المعرفة في عاصمة بلاده، ويدلف لعالم الحياة الجديدة عالم الوظيفة وعالم الصحافة والأدب والشعر، والرياض في تلك المرحلة تَعِد أبناءها بمستقبل جميل. ما إن أنهى بن إدريس دراسته في المعهد ونال منها شهادته حتى يسر الله له الانضمام إلى كلية الشريعة في الرياض عند افتتاحها عام (1373ه) ليلتحق بها ويتخرج فيها ضمن أول دفعة تحصل على درجة البكالوريوس عام (1376ه). كان لابن إدريس في مطلع شبابه تجربة مع التعليم حيث درَّس خلال عامي (1368 / 1369ه) في مدرسة الفيصلية بالرياض أثناء تردده على حلقات مشايخ الرياض، الأمر الذي دفعه للعمل بعد تخرجه في ذات الأجواء العلمية فعين مفتشاً فنياً على المعاهد العلمية وتدرج في وظائف التفتيش حتى أصبح مديراً عاماً للتفتيش في الرئاسة العامة للمعاهد والكليات (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية) فيما بعد انتقل ابن إدريس لوزارة المعارف ليكون مساعداً للتعليم الثانوي ثم مديراً للتعليم الفني (التجاري والزراعي) ثم عاد مرة أخرى إلى جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ليُخْتار أميناً عاماً لها وتقلب في وظائفها التي منها مديراً للبعثات والدراسات العليا ثم مديراً عاماً للثقافة والنشر العلمي حتى تقاعده من العمل الحكومي عام (1409ه) بعد أن أبلى بلاء حسناً في رفع مستوى التعليم الجامعي وحقق بعض ما كان يصبو إليه لخدمة وطنه. ما يُذْكر الأديب الكبير والشاعر المبدع الأستاذ عبدالله بن إدريس إلا ويقفز في ذاكرة كل مثقف كتابه النقدي المهم "شعراء نجد المعاصرون" والتي جاءت طبعته الأولى عام (1380ه - 1960م) الذي عده مؤرخو الأدب فتحاً جديداً في مجال الدراسات الأدبية في نجد، بل كان باعثاً من بواعث حركة النقد في المنطقة.. ذلك أن ابن إدريس تهيأت له أسباب الريادة بين عدد من أقرانه لتعدد محفوظه وتنوع قراءاته في التراث، فخرج الكتاب يحمل عمقاً في التحليل والنفاذ إلى الظواهر الفنية وتعليلها.. ناهيك أن هذا الكتاب هو فاتحة النقد في منطقة نجد ومبشراً بعودة الشعر إلى مراتعه الأولى برصد نماذج شعرية حية قدمت صورة باذخة عن حركة الشعر في نجد بعد أن كان خاملاً في القرون الأخيرة تتعاوده الخطوب والأحداث، وقد سلك ابن إدريس في كتابه هذا مسلكاً تقليدياً إلا أنه عميق جداً حيث قدم نموذجاً شعرية راقية وقبل ذلك أعطى للقارئ صورة عن الشاعر ترجم له فيها عن حياته، بعدها لامس النصوص ملامسة نقدية تظهر حذقه في الاختيار وذوقه الفني، وهو بذلك أول من عبَّد هذا الطريق للدارسين والباحثين من بعده، ليس ذلك فحسب بل تطرق إلى اتجاهاته التي توزعت بين الرومانطيقي والواقعي والكلاسيكي ولكل اتجاه فرسانه من أرباب القوافي، والكتاب وأعنى به "شعراء نجد المعاصرون" ذاع صيته وعلا ذكره وأضحى خبراً مهماً في بطون الصحف والمجلات المحلية والعربية والإذاعات أيضاً، فهذا الناقد المعروف الدكتور عبدالقادر القط يصفه قائلاً: (إن هذا الكتاب يعتبر مرجعاً وافياً للذين يؤرخون للأدب العربي الحديث في الجزيرة العربية، وهو إثراء للمكتبة العربية، وإضافة جديدة لأساليب التعريف في النقد الأدبي) وهذا شيخ النقاد العرب الدكتور محمد مندور يذيع رأيه في الكتاب من إذاعة القاهرة فيقول عنه: (.. والكتاب يضم دراسة تاريخية نقدية لحركة الشعر المعاصر في نجد وتياراته المختلفة، كما يضم تراجم ومختارات لأكثر من عشرين شاعراً معاصراً في نجد)، بل تُوِج هذا الكتاب برأي من الأديب الكبير الأستاذ عباس محمود العقاد إذ قال: "والكتاب غيّر وجهة نظري تماماً عن الشعر في الجزيرة العربية، فقد وجدت فيه شعراً عظيماً وشعراء عظماء وعملك فيه أعظم"، وصمت الشيخ عبدالله بن إدريس عن المشاركة النقدية والكتابة عن الشعر والإبداع إلا بعض القراءات النقدية القليلة التي توزعت في الصحف والمجلات فاستحسنها أصدقاؤه من الأدباء والشعراء وأوعزوا إليه أن يخرجها في كتاب لتكون مرجعاً للقراء والباحثين ولتكون رافداً للمكتبة النقدية السعودية، الأمر الذي حفَّز ابن إدريس لجمع كل كتاباته النقدية وإخراجها في كتابين ظريفين هما: "كلام في أحلى الكلام" 1410ه و"عزف أقلام" 1412ه، كما أن له من المخطوط ما يبلغ كتاباً أو أكثر. ابن إدريس بين القوافي لا مشاحة في أن الشعر فن العربية الأول وأرقى آداب العرب وأرفعها، ولقد تفتقت مواهب كل الأدباء عن أبيات أو مقطوعات قبل أن يتخصصوا في أي فن من فنون العرب، فراودوا نظم القوافي في مطلع حياتهم فمنهم من غرق في بحور الشعر ومنها من نجا وأضحى علماً متفرداً فيه بما يحمله من عاطفة مشبوبة وصور متجددة ولغة رفيعة، ومن نحن بصدد الكتابة عنه إذا ذكر أمر الشعر في نجد كان من الطبقة الرفيعة له مع القوافي صحبة دامت عقوداً طويلة جمع شائق اللفظ مع رشاقة المعنى وملاحة الديباجة فخلق صوراً مبتكرة، إلا أنه مقل فيه لكن الشعر عنده الأثر البارز فيما أنتج من إبداع، ذلك أن ابن إدريس كما يذكر في مقدمة ديوانه الأول والموسوم ب"في زورقي" أنه لا يستجيب لدواعي الشعر ويخضع لسلطانه إلا في واحدة من حالتين هما: (أن يكون الباعث من القوة وشدة الالتحام النفسي بالقدر الذي يعجزني عن مقاومته وصد هجومه، أو أن تكون أجوائي النفسية مهيأة للتفاعل مع الحدث أو القضية المراد التفاعل معها). وهذا في زعمي يعزز صدق التجربة الشخصية لدى الشاعر ولو تأملنا نتاج ابن إدريس الشعري لوجدنا أنه يتفاعل مع الحدث الذي يقع في دائرة اهتمامه ويستجيب له وينصاع فيورق لحناً مسكوناً بالجمال يبثه في نفوس الذين يبحثون عن عطر الشعر الأصيل بعد أن شوه الشعارير حقول الياسمين وبيادر الأزاهير، انصت إليه في إحدى نماذجه الشعرية حتى تسكن روحك أفياء الربيع يقول في قصيدته "مع الليل": ياليل فيك تأوهي وزفيري ووميض أحلامي ونبع شعوري ياليل فكري في خضمك شارد أبداً يطوف بكونك المستور ما أن يجول وقد توارى سابحاً بين النجوم بنشوة المخمور ورنا إلى القمر المنير لعله يطوي الهموم بومضة من نور وكأنما قد مل صحبة عالم ربض الظلام بنهجه المعبور حتى يعود إلى قرارة بؤسه دامي الفؤاد بأوبة الموتور ياليل لا أنفك أكتب جاهداً فيك القصيد لبالي المكسور وعلى غرار هذا الحسن والبراعة تأتي بقية قصائد الديوان، بل أن الديوان الآخر "إبحار بلا ماء" ازدادت رقعة الجمال فيه وأخضوضرت أبياته. ابن إدريس وإدارة الأدب والثقافة التاريخ الطويل للشيخ ابن إدريس مع الأدب والشعر والثقافة والمطالعة الواسعة هيأت له مكانة سامقة بين لداته وداخل المجتمع الثقافي فصوته الثقافي المتزن وحضوره البارز ووسطيته المعروفة ومشاركته الثقافية والشعرية الدائمة دفعته للموافقه بتولي رئاسة نادي الرياض الأدبي منذ عام 1401ه بعد أن عينه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حينها كان أميراً على الرياض، وقد كان قبل ذلك أحد أعضائه منذ تأسيسه عام 1395ه، ما جعل من علمنا ابن إدريس إلا أن شمر عن ساعديه وأخذ مع ثلة مع أرباب الأدب والثقافة أعضاء مجلس إدارة النادي يضعون الخطط ويعدون البرامج لينهضوا بثقافة الرياض ولعمري إنه من أصعب المهام وأشق الأعمال فكرس جهده وانغمس في لجة أعمال النادي وأخلص له بل وانقطع، فازدهر نشاط النادي واعتمر بالجمهور، لقد استضاف النادي في عهده كوكبة من الأدباء وجمهرة من الشعراء وجهابذة النقاد وأعلام الفكر كل هؤلاء اعتلوا منبر النادي، كما أزهر النادي عن سلسلة من المطبوعات تمثلت في أرقى الإصدارات الثقافية لطائفة من صناع الثقافة، كما لم يغب عن فكر ابن إدريس أن يخرج مجلتان تضمان لفيفاً من الدراسات النقدية والقراءات الثقافية والإبداعات الشعرية والقصصية تمثلت في (قوافل) و(الأدبية) وظل الشيخ عبدالله بن إدريس قنديلاً يضيء، ثقافة وأدباً للعاصمة الحبيبية قرابة ثلاثة عقود دون أن تكلَّ عزيمته أو تمل نفسه أو توهن قدرته. وكما أن لكل بداية نهاية ولكل كوكب أفول فقد لبى الشيخ ابن إدريس نداء ربه فنعاه الناعي صباح الأربعاء 29/صفر/1443ه بعد عقود طويلة في خدمة ثقافة بلادنا فرحمه الله وأسكنه فسيح جناته. ابن إدريس خدين الجوائز * فاز بجائزة إذاعة "صوت العرب" عن قصيدته (المجاهد الجزائري) عام 1955م. * فاز بجائزة إذاعة "بي بي سي" عن قصيدته (رائد المجهول) عام 1960م. * منح "وسام الريادة" و"الميدالية الذهبية" عن كتابه "شعراء نجد المعاصرون" عام 1974م. * فاز بجائزة "الخنجر الذهبي" من أمير منطقة عسير لشعراء المملكة والخليج العربي. * حصل على "ميدالية رواد المؤلفين السعوديين" في معرض الرياض الدولي للكتاب عام 2006م. * كرمته وزارة الثقافة والإعلام في المؤتمر الإعلامي الأول وذلك لدوره الريادي في نهضة الصحافة والطباعة عام 2009م. * كرمه الملك عبدالله بن عبدالعزيز بوسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى والميدالية الذهبية في مهرجان الجنادرية عام 2011م. * كرمته السفارة الجزائرية في المملكة في الذكرى (50) للاستقلال عام 2012م. الشيخ بن إدريس يلقي إحدى قصائده في منزله خلال حفل ضم جمعاً من الكتاب والمثقفين