بعيداً عن تعريفات وتوصيفات الثقافة التي أثيرت حولها الكثير من الخلافات والتباينات، بعيداً عن كل ذلك، لم تعد الثقافة مجرد حزمة تنويرية همها الكبير والوحيد إحداث تحولات وتموجات فكرية وإنسانية، رغم قيمة وأهمية ذلك، ولكنها الآن تُمارس أدواراً ووظائف أكثر تعقيداً وتأثيراً، الثقافة تخلّت عن كل تلك الصورة الباذخة التي رسمتها في فكر وذائقة المجتمعات والشعوب والأمم لقرون طويلة، لتبدأ صفحة جديدة عنوانها الكبير: الثقافة كفعل اقتصادي مربح له أدواته وآلياته، بل وقوة ناعمة عظمى لها مقوماتها وتأثيراتها، الثقافة الآن، كمنظومة اقتصادية أو ما بات يُعرف باقتصاد الثقافة، قفزة ذكية لتلعب الثقافة بمختلف أشكالها ومستوياتها أدواراً محورية وأساسية في أجندة القرن الحالي. لقد بات من الضروري الإسراع في صناعة الاستثمار الثقافي والمتمثل بنشر وتسويق الإبداع الثقافي وتأهيل وتدريب الكوادر وإنشاء بنية تحتية ثقافية وذلك للوصول للمرحلة الأهم، وهو جني الأرباح والمكاسب المالية والثقافية لضمان استمرار هذا القطاع الحيوي كأحد الروافد والمرتكزات الأساسية في سياسات التنمية الشاملة والمستدامة. الثقافة الآن، بل ومنذ عقود تجاوزت تلك الأدوار والوظائف التقليدية كالقراءة والكتابة والنشر وتوجيه المشاعر وصياغة القيم وتشكيل الوعي وغيرها من الواجبات المهمة والضرورية التي مارستها الثقافة لقرون طويلة. الثقافة الآن من أهم الأعمدة في الاقتصاد العالمي والتي تُسهم في ضخ المليارات لخزائن الدول وتوفر الوظائف والفرص لملايين البشر، الثقافة الآن تُدار كما لو كانت صناعة تُنتج الكثير من السلع والبضائع، دون الإخلال طبعاً بممارسة دورها الثقافي والتنويري. الثقافة العصرية هي إحدى مرتكزات الاقتصاد العالمي، ومنتج وطني يُسهم في تنوع وتعدد مصادر الدخل، لتتحول الثقافة من قطاع ينتظر الدعم والتمويل ليُنفذ مشاريعه وبرامجه الثقافية والتنويرية، إلى قطاع مربح يُدار بشكل احترافي ومهني، تماماً كما لو كان شركة تستثمر في منتجات الثقافة التي أصبحت تُحقق أرباحاً مليارية وتضمن الاستمرارية، الثقافة بمفهومها الاقتصادي ستُسهم بدورها في تحقيق التنمية الوطنية الشاملة والمستدامة، بل ويمكن استثمارها في تصميم مستقبل الوطن. الثقافة بمختلف أشكالها ومستوياتها، بحاجة ماسة لأن تتحرر من خطوط الإنتاج التقليدي التي استمرت لعقود، بل ولقرون، لتحل محلها أساليب وطرق جديدة وعصرية تتناسب مع طبيعة العصر وشكل الحياة.