ما يميز المملكة العربية السعودية عن باقي دول العالم هو الدور الروحي الذي تتميز به؛ كونها البوصلة الروحية والثقافية والأخلاقية لأكثر من مليار و300 مليون مسلم يتجهون للمملكة دائما، ويتجهون بأبدانهم وعقولهم يومياً إلينا، وتحتل المملكة جزءا كبيرا من الوعي واللاوعي الديني للأمة الإسلامية أثناء أداء عباداتهم، والذي تتمنى وتتظاهر بعض دول المنطقة بممارسته. وتكمن أهمية الدور الروحي في كونه يبعث طاقة عابرة للحدود، تعزّز عند المسلمين انتماءهم لهذا البلد؛ كونه مصدراً لإلهامهم ومرجعاً دينيّاً مقدسّاً لهم يستحوذ على جزء كبير من الذاكرة الثقافية للمجتمعات الإسلامية، ويؤكد حتمية الترابط بين العروبة والإسلام وباقي الحضارات، وبذلك تكون المملكة المركز الكوني والفلك الثقافي، الذي يبعث الطمأنينة والاستقرار في قلب كل مسلم؛ كونها البيئة الأصلية للدين وملتقى المسلمين من جميع الأقطار؛ كون أحد أركان الإسلام الخمسة يحتم على كل مسلم أن يقوم برحلة إلى قلب العالم الإسلامي مكة. "تستهدف رؤية السعودية وصول عدد المعتمرين والحجاج إلى 30 مليونا عام 2030" وهي تعتبر المفتاح الرئيس لفهم الإسلام منذ 14 قرناً، وهي مفتاح للعالم الذي يبحث عن فهم الإسلام والمسلمين؛ كونها مصدراً رئيساً لفهمه، لامتلاكها العمقين الثقافي والإسلامي المذكورين في مرتكزاتها، فإن هذا العمق يمثل فرصاً وتحديات في الوقت نفسه. لذلك نأمل من وزارة الثقافة أن تضع ثقافتنا على الخريطة الثقافية بين الحضارات الأخرى، وتعيد بث الطاقة والحيوية في جسد ثقافتنا، وتعيد لها إعجابها بنفسها، وصلتها بماضيها وإعجاب الحضارت الأخرى بها، وإظهار تأثير الثقافة السعودية وتأثرها من خلال المقايضات الثقافية بينها وبين الحضارات المختلفة على مدى العصور. ويجب أن تُصمم وزارة الثقافة كصرح للكبرياء المدني والأممي، لتكون أيقونة عالمية محترمة في التاريخ الثقافي، كونها أداة اجتماعية مهمة للحوار بين الثقافات، من خلال عرض كنوز الماضي والحاضر، وتوسيع أرضية الحوار والتلاقي بين طاقات الوطن الثقافية والفكرية، من خلال التعريف بخصائص ومقومات حضارتنا؛ حتى نتمكن من خلق خطاب تعاطف ثقافي يدحض خطاب الكراهية (الإسلاموفوبيا) الشائع في عالمنا المعاصر. وبما أن المملكة في موضع فريد للتعبير عن العروبة والإسلام، فإن وزارة الثقافة تعتبر من الأدوات الجديدة التي تبنتها الرؤية للتعبير عن حضارتنا، ولإيصال صورة إيجابية حول الإسلام من منظور جديد. ويجب على وزارة الثقافة أن تقوم بإعادة الاعتبار إلى الدور الحاسم للثقافة، وجعلها في الواجهة، خاصةً الثقافة المحلية، وذلك من خلال جعلها متماسكة وواعية لقوتها السياسية. والحفاظ على التنوعين الحيوي والثقافي، وبذلك يلتحق الدور الثقافي بالدور الاقتصادي الذي أدى إلى انضمامنا لمنظمات التجارة العالمية، وإلى الدور والمكانة السياسية للمملكة في العالم أجمع ومدى تأثيرها في القرارات السياسية. " الدبلوماسية الثقافية هي تبادل الأفكار والمعلومات والفنون وباقي جوانب الثقافة بين الدول والشعوب من أجل تعميق التفاهم" كون الجانب الثقافي يعبر عن إحساس الشعوب والنخب بأن ثقافتها ومبتكراتها هي من المنجزات الإنسانية والحضارية، وجزء من عوامل قوة الدولة المضافة، التي تسهم في تعزيز سياستها الخارجية التي تسعى من خلالها لتحقيق المكانة والمنزلة الدولية؛ لذا فإن الوزارة تعتبر مشروعا ثقافيا وطنيا، ومن خلاله تستطيع الدولة تفعيل مفهوم أمنها الثقافي، وتعزيز آليات عمل دبلوماسيتها الثقافية، التي تتعدى مجرد كونها هدفا ثقافيا وفكريا، وإنما هدف حضاري شامل ينطوي على جوانب سياسية ووطنية. وأن تسهم الوزارة في بناء قوة الوجود الثقافي، وذلك بالاندفاع والفعل المؤثر، من خلال الاعتزاز بالذات الوطنية الثقافية، والانفتاح على الثقافات الأخرى. ويجب علينا الاستفادة من الدعم الذي يقدمه المجتمع الدولي لتفعيل هذا الجانب وتطويره، والدخول في الأجندات الثقافية والفعاليات والمناسبات الدولية بشكل رسمي وفق منهجية علمية. ونبرهن على التزامنا الكوني باستخدام الفن والتراث لجمع الشعوب وتشجيع التفاهم البشري. نواة الاقتصاد الإبداعي (creative economy) تعد الثقافة من أهم العوامل الأساسية التي تحقق التنمية المستدامة، فلم تعد التنمية الاقتصادية هي التنمية الوحيدة التي تشبع رغبات الإنسان؛ كون الثروة في هذا العصر لن تكون منوطة بالموجودات المادية فقط، بل بالقدرة الإبداعية الإنسانية، وذلك بتحويل الثقافة إلى منتج، بمعنى تحويل التجارب والخبرات الثقافية وتوظيفها من قِبل المبدعين في جميع المجالات في منتجاتهم الإبداعية. إن هذا الإرث الثقافي الطويل والمعقد هو ما يجعل الاقتصاد الإبداعي مختلفاً عن أي قطاع اقتصادي آخر. فعبر التاريخ الإنساني، لم يتم التعاطي أبداً مع النشاطات الثقافية أو الإبداعية على أنها جزء من الاقتصاد. فقد كانت النشاطات الثقافية دائماً هي ما يمارسه الناس خارج أوقات العمل وليس خلالها، وحتى يومنا هذا لا تزال الصناعات الإبداعية تعد تعبيراً ثقافياً بقدر ما هي قيمة اقتصادية. إن مفهوم الاقتصاد الحالي هو تحويل رأس المال الفكري (المفاهيم والأفكار والرؤى) إلى القوة الدافعة للعصر الجديد، وهي الموضوعات الحقيقية ذات القيمة في الاقتصاد الإبداعي الجديد، لا الأشياء المادية فقط. من أهم أدوار وزارة الثقافة، دعم وتطوير الاقتصاد الإبداعي في المملكة من خلال إلهام المصممين والمبتكرين، وذلك بتوفير الموارد الثقافية لهم، وإرساء ونشر مفهوم أن الثقافة ستصبح من أهم المصادر التجارية في المستقبل. والبدء في عمل البنية التحتية التي تسهم في خلق بيئة مناسبة للاقتصاد الإبداعي؛ كونه يوفر فرصا وظيفية للشابات والشباب المبدعين، فعلى سبيل المثال دخل الاقتصاد الإبداعي في بريطانيا ما يعادل 84 مليار جنيه سنويا؛ أي ما يقارب عشرة ملايين جنيه في الساعة، ويوفر هذا القطاع ما يعادل ثلاثة ملايين وظيفة، لذلك هذا القطاع يسهم في القضاء على البطالة، والمؤسسات الثقافية البريطانية تسهم في زيادة الدخل القومي، فعلى سبيل المثال وليس الحصر المتحف البريطاني The British Museum، فرغم أن الدخول للمتحف مجاني، إلّا أن متوسط الدخل السنوي له يقدر ب 165 مليون ريال، وذلك من خلال إقامة المعارض المؤقتة بالتنسيق مع مؤسسات ثقافية دولية. بينما يقدر عدد زوار متحف الميتروبوليتان للفنون (The Metropolitan Museum of Art) نيويورك في 2016 فقط ب 7.1 ملايين زائر، ويقدر متوسط الدخل السنوي للمتحف 6.5 ملايين ريال. مملكة القرن الواحد والعشرين وكوننا نعيش في عصر التكلونوجيا والمعلومات والاتصالات عن بعد في شبكة واحدة متكاملة؛ أي كنوع عصبي عالمي يحيط بالكرة الأرضية، ويقضي أغلب الناس جل وقتهم في الواقع الافتراضي (السيبراني)، الذي يوفر اتصال الكائنات الإنسانية ببعضها وتبادل المعلومات والبحث عنها. لذلك يجب توظيف هذه الإمكانات، لتسهم حضارتنا وثقافتنا في تشكيل أعمق مستويات الوعي الإنساني، ومحاولة أخذ أكبر قدر ممكن من مساحة هذا الفضاء المعلوماتي، ولنتمكن من مساعدة مجتمع المعلومات على فهم واستخدام إرثنا الثقافي، وبتوفير المعلومات عن تراثنا علي الإنترنت حتى يسهل إلقاء الضوء عليه في المسائل والقضايا التي تثيرها استخدامات التراث الثقافي عند الباحثين، مع أهمية الاستمرار في تغذية وتحديث مجتمع المعلومات بالمعارف والمواد الثقافية التي تساعدهم على فهم هذا التراث، حتى يتمكنوا من إعطاء ثقافتنا مكاناً رئيساً في الثقافة الكونية. ويسهم فضاء المعلومات في عملية التوثيق والحفاظ على ثقافتنا وإبداعاتنا من العبث والسطو المعرفي الذي يتعرض له على شبكة المعلومات العنكبوتية الدولية (الإنترنت). المملكة ملاذ آمن للثقافة ينتظر العالم في هذه للحظة الراهنة؛ كونها تختلف عن أي لحظة سابقة؛ من المملكة (بيت الذاكرة الإسلامية الأول)، أن تعيد المملكة كتابة تاريخ الأمة، وتعيد إخراجه بعقول ناضجة، بعقول العصر الذي نعيشه (عصر مملكة القرن الواحد والعشرين)، وأن تكون وزارة الثقافة صرحاً وميدانًا للعمل الفكري، هدفه شدّ انتباه العالم، وبث رسالة للإنسانيّة تؤكد أن السعودية وأبناءها دعاة بناء وتشييد وحضارة، ويؤكدون أننا سنتمكن من مواكبة التطور الحضاري، والوصول إلى تحقيق أهداف الرؤية في الوحدة والتنمية والتقدم خلال العقود القليلة المقبلة؛ كونها تمتاز بتوفير البيئة الآمنة والمستقرة والظروف الملائمة لإقامة مشروعها الثقافي. * مؤسس غارم استديو عبدالناصر غارم* الأمير بدر بن فرحان آل سعود المتحف البريطاني Your browser does not support the video tag.