للسميولوجيا أهميتها في الكشف عن دلالات الأشياء، وما ترمي إليه، وهي في أوجز تعريف لها عند أكثر السيمائيين: "معرفة العلامات"، أي التعرف على معاني الشيء من خلال علاماته الدالة على مضامينه، وحيثياته، وخلفياته، ومن هنا أصبحت (السميولوجيا) مفتاحاً للتعرف على كثير من العلوم والنظريات الأخرى، حتى قال أحد أقطابها، وهو العالم الرياضي الأميركي (تشارلز ساندرس بورس 1914م): "لم يكن بمقدوري مطلقاً القيام بدراسة أي شيء في هذا الكون كالرياضيات، والأخلاق، والميتافيزيقا، والجاذبية، والبصريات، والاقتصاد، وعلم النفس، والصوتيات وتاريخ العلوم.. إلخ، إلا من خلال السميولوجيا". وكالتداولية، لم تعد السيميائية مقتصرة على الخطابات والنصوص، فلئن كان التواصل اللغوي مهماً، وكذا التواصل غير اللغوي لا يقل أهمية، فكذلك الأشياء وعلاماتها، قد تنبع قيمتها من وحي اللغة، وقد تظهر من بيئة غير لغوية، كالجمادات، ونحوها، فالجماد لا يتكلم، ولكنه قد ينطق عن معنى متوارٍ، غير محسوس، وقديماً حدّث الشعراء الأطلال، وبكوا عليها، وشخّص بعضهم – كابن خفاجة الأندلسي – الجبل، إحساساً منهم بأنها ذات علامة دالة. وسأحاول الانطلاق هنا من (سميولوجيا المباني) في عصرنا الحديث، وسأختار بعض النماذج قريبة الحدث والصلة، وكما يقول الروائي والسيميائي الإيطالي (إمبرتو إيكو 2015م): "سآخذكم معي في رحلة أركيولوجية ستقودنا بعيداً عن النظريات المعاصرة للتأويل النصي"، أقول: "سآخذكم معي في رحلة عمرانية للاطلاع على بعض ما تشير إليه معاني البناء الحديث، وبخاصة هنا في المملكة العربية السعودية؛ لندرك من خلال ذلك أن المبنى الإسمنتي، أو الخشبي، أو الحديدي، أو القماشي، أو ما شابهه، ليس بناءً وظيفياً فحسب، أو بناءً جمالياً فقط، وإنما هو بناءٌ ذو دلالاتٍ عميقة، ومعاني دقيقة". وبينما كنتُ أطالع تقريراً جميلاً يحكي قصة (إنشاء صالة الحجاج) في مطار الملك عبدالعزيز الدولي بجدة، ذلك المشروع الذي يعود تاريخ بنائه إلى أربعة عقود تقريباً، وأضحى معلماً فريداً من معالم جدة، وواجهة أولى للحجاج والمعتمرين، لفت انتباهي أن مهندسه نال من خلاله جائزة؛ نظراً لفرادة الفكرة، وجمالها، وبساطتها، وأظن أن ذلك الفوز عائد إلى سيميائية ذلك البناء؛ حيث ترمز تلك الصالات إلى الخيام، التي تتضمن كثيراً من المعاني الجميلة، منها: حفاوة الاستقبال، والكرم، والضيافة، والبشاشة، والسرور، وهي كذلك تعطي انطباعاً أولًا للحاج والمعتمر منذ وصوله لطبيعة المكان في المشاعر المقدسة، والتأقلم مع أجواء العبادة، وتوحيد الهم، والهدف، والمقصد؛ فالناس كلهم سواء، في مشهد واحد، وموقف واحد، وزمن واحد. إن من ينظر إلى بعض المشروعات العمرانية الأخرى المشابهة ذات الدلالة الاحتفائية سيجدها كثيرة، وقد زادتها الأيام جمالاً، فلم تفقد وظيفتها ورونقها، ولعلي أذكر هنا مثلاً (مظلات المسجد النبوي الشريف) التي هي تحفة معمارية جميلة تضاف إلى القباب الذهبية التي تملأ أرجاء المسجد، وكلها تعكس شيئاً من سيميائيات الخيام التي تشير إلى دلالات الاحتفاء والاعتناء، وترمز إلى الكرم والضيافة التي هي أحد الأخلاق الحميدة التي وصّى بها الإسلام، وحثّت عليها شيم العرب، وقامت عليها سياسة دولتنا المباركة قيادة، وحكومة، وشعباً. وليس هذا على المستوى الديني فقط، بل نراه أيضاً في الشأن الرياضي، وفي استاد الملك فهد الدولي بالرياض ما يدل على ذلك؛ إذ هو معلم فريد، وواجهة جميلة، تشير إلى ما تنطق به الخيام من دلالات الكرم، ومعاني الاحتفاء، ورمزية الضيافة.