المأثورات الشعبية تحمل حقائبها وتسافر .. تركب الجمال والبغال والخيل وتمخر عباب البحار والمحيطات في أسفارها الطويلة ... قاطعة. المسافات .. عابرة للقارات لا تكاد تحو بلداً جديداً وترى شعباً غريبا حتى تألف وتستوطن و تخلع ثيابها القديمة وتلبس ثياب الشعب الجديد ولا تعود ضيفة تصبح مقيمة وتأخذ (الجنسية ) وتتحدث بنفس اللهجة وتعرف العادات والتقاليد وتنفس أجواء الشعب الجديد ثم تذوب فيه حتى تصير جزءاً منه كأنما صدرت عنه .. فلا أحد يستطيع أن يؤكد - بالتحديد - ما هو أصل الكثير من الحكايات الشعبية والأساطير فضلاً عن الحكم والأقوال والامثال السائرة التى تناقلتها الشعوب جيلاً بعد جيل فاخترقت الأجواء كالطائرة ودخلت الحدوة كالريح بلا جواز سفر ولا تأشيرة دخول وجمارك مشددة ... جل ما تفعله (الجمارك ونقاط التفتيش) مع (الفلكور والمأثور الشعبي) هو أن تصبغه بألوانها المحلية وتعلمه لهجتها وتحذف منه ما لا يوافق تقاليدها وتلبسه ثوباً يلائمها ويعبر عن هويتها دون أن تغير في جوهره أو تعبث بمعناه الأصلي. من المأثورات الشعبية التي انتقلت بين القارات وعبرت بصوت واحد - هائل - عن معنى واحد يتردد وجدان الجماعات على اختلاف الهوية والطباع واللغة والتاريخ تلك القصة القصيرة المشهورة في مأثورنا الشعبي بعنوان: (وقف مرزامه) فهي بمعناها الحرفي تقريبا تروى في فرنسا لكن الذي يوقف هو ( المزمار ) وتروى فى الصين لكن الذي يوقف هو ( الابتسام ) بدل المرزام . ومع أن القصة المأثورة قصيرة إلا أنها عميقة الدلالة صادقة الرؤية إلى حد كبير، ولكنه فيها فوق ذلك عزاء الشعوب لنفسها بأن للثروة ضرائبها ومصائبها وأن للفقر محاسنه وعطاءه.. وهو معنى يحمل الغراء لدى الشعوب التي هي في مجملها - على مر العصور - أقرب إلى الفقر منها إلى الغنى فضلاً عن الثراء، ولذلك سرت هذه القصة المأثورة وأعجبت الشعوب لأنها أراحتها وحققت بعض. مآربها ومع هذا كله فإن دلالة القصة ليست خيالية بل هي قريبة من الواقع (الحكاية ) كان هناك جاران أحدهما غني جدا .. والثاني فقير جدا .. وقد نشأهم بينهم وبين نسائهم ما ينشأ بين الجيران من معرفة على اختلاف المعيشة وكان الرجل التاجر إذا عاد إلى بيته يغرق في حساباته وطموحاته وأرقه وقلقه لهذا كان كثير الهجران لزوجته ... وبعكسه جاره الفقير ... كان يعود إلى البيت خالي البال .. لاشئ لديه يخسره .. ولاشيء عنده يفكر فيه .. لهذا كان بيته هو جنته وكان شديد اللطف والعناية بزوجته .. وشديد الشوق والحب لها لا يهجرها. وكان (مرزام) الجار الفقير يجري بالماء في الليل، لكثرة ما يغتسل هو وزوجته، حين كان الاغتسال في السطوح، وصرف الماء في الشوارع عبر المرازيم أو التي تسمى أيضا (المتاعيب) وهي مواصير قصيرة موصلة من السطح وبارزة قليلا على الطريق الترابي في الحارة، فكان أي جريان للماء منها يظهر ويبان ، ويحس به الجيران. اغتاظت زوجة الرجل الغني من كثرة (جريان مرزام الجارم) وتوقف مرزامهم هم !.. فما فائدة التجارة إذن؟ إذا لم تنعكس حبا وسعادة على المرأة فلتذهب إلى الجحيم ، ما فائدة الموائد الكبيرة التي فيها أنواع الطعام والإنسان ممنوع من تناولها ؟ إنها تقهر أكثر ! لهذا قررت زوجة الرجل الغني أن تفاتحه في الموضوع، وأن تعيره عساها أن تثير رجولته فقالت له بخبث خفي: انشوف مرزام جارنا يصب كل ليلة ومرزامنا - يا حسرة - ما يصب الا في الشهر مرة .. هذا .. ان صب ! وفهم الرجل الغني قصد المرأة الخفي .. خاصة أنها أعادته عليه أكثر من مرة حتى ثار حنقه وقرر أن يغير حياة جاره وأن يثأر لمرزامه الجاف ! بعد صلاة الفجر أمسك الثري بيد جاره الفقير وهما عائدان من المسجد إلى البيت، وقال: جاري العزيز ! لماذا لا تعمل في التجارة ؟!.. دهش الرجل الفقير من هذا السؤال المفاجئ والغبي فقال : و من أين يا حسرة أنا (حمالي) أذهب للسوق أحمل إن لقيت بضاعة وارجع برزق اليوم ( قوت لا يموت ) ويني ووين التجارة ... وأنت تعرف الحال قال : لأني أعرف الحال أريد مساعدتك ! فأنت جار وأنت جيد .. وللجار حق اسلفك المال وابسط وبع واشتر وسدد على مهلك فرح الجار الفقير وباشر البيع والشراء من ذلك اليوم وجرى المال في يديه مع الأيام فصار إذا عاد إلى بيته ليلاً يحسب ويضرب، ويقول في نفسه: هذا فلان أطلبه كذا ، وفلان يطلبني كذا .. وفلان يمكن ما يوفي. وأشغلته التجارة عن زوجته الحبيبة. وصار يلقيها قفاه وينام ... وتحقق للجار التاجر ما أراد: وقف مرزام الجار الفقير (وما صار فيه احد أحسن من حد ) !! *المادة بعث بها الكاتب للنشر قبل وفاته -رحمه الله- المرزام لتصريف مياة الامطار المادة بخط الكاتب ازدحام أحد الأسواق القديمة