من المؤلم أن ندرك أن عددًا من العلل والأدواء قد ألمَّ بأحاديثنا وحواراتنا عندما تطرق شتى أبواب العلم والمعرفة من أكبرها إلى صغيرها ودقيقها. فعطفًا على نسيان آداب الحديث والحوار، وغياب السعي الصادق الرامي إلى بلوغ المعلومة الصحيحة الخالية من الغبش، والبريئة من شوائب الباطل والزيغ، يعم حديثنا أحيانًا جهل عظيم بأولى مبادئ المنطق السليم، والسبل القويمة في إيجاد الدليل الصائب والحجة المعتد بها في الحجاج عن رأي من الآراء أو مذهب في مسألة، ويزداد الحزن مرارةً عندما يبلغ الجهل حد الاستدلال بدليل غالط على رأي فاسد. يعرف كل من له دراية في علم اللغة وإن قلت ذلك الرسم البياني الخاص المستعمل في تحليل تركيب العبارات والجمل في دراسة نحو اللغة (Syntax). ذلك الرسم الذي تنحدر خطوطه كما تنحدر أغصان الأشجار في بيان التركيب الداخلي للعبارات والجمل، والتمثيل الصحيح لاجتماع عبارات اللغة، والتفصيل الدقيق للعلاقة الحقيقية التي تربط تلك العبارات ببعضها. تطورت نظريات تحليل تركيب اللغة مع مضي السنين، وتطور ذلك الرسم البياني في التمثيل إلى أن بلغ صورةً بالغة التعقيد، مخالفة للبداهة، عجيبةً في التفصيل. وبدر إلى ذهني هذا السؤال: ما الذي جعل النظرية الأحدث والأقوى في دراسة نحو اللغة تصل إلى هذا النموذج، وهذا التفصيل بوجهٍ خاص صارفةً النظر عن أعدادٍ أخرى من النماذج والافتراضات التي لها أدلتها التي تحتمي بها، ورجالها المنافحون عنها. ولماذا تنجح نظرية واحدة على مخالفتها للبداهة في كثير من الأحيان؟ ولماذا ينجو نموذج واحد في الوصف والتفسير، ويظفر بالنجاح، ويتجاوز الزمن ما عداه؟ وما الذي يمكنه الحكم في سلامة المعرفة بأمر ما. ربما فاتنا أن نعرف أن للمعرفة علمًا يبحثها، وطائفةً من المفكرين عكفوا على دراسة مباحثها، وقصدوا في أقوالهم إجابة عددٍ من الأسئلة المنضوية إلى ذلك الباب الفسيح. ويُعرَّف علم المعرفة (Epistemology) بأنه «الدراسة الفلسفية لطبيعة المعرفة البشرية، وأصولها، وحدودها». ويُسمى هذا المجال كذلك نظرية المعرفة. ويتشارك علم المعرفة في بعض المسائل والنظريات مع تلك الباحثة في خواص العقل مثل طبيعة الإدراك، والذاكرة، وتحليل الأفكار في الذهن، وسبل الاستدلال والاستنباط. وقد بلغ تصميم الجهاز الذهني لدى الإنسان غايةً في التعقيد والإبداع إذ يتفاعل هذا الجهاز باستمرار دائب مع العالم الفسيح حوله بما يستقبله من حواس وهبها الخالق –تعالى- إياه، أو بما يستمع إليه من أخبار، أو بقدرات التحليل والاستنباط، ثم تأتي الاعتقادات أو الأفكار نتيجةً طبيعيةً لذلك التفاعل الذهني البديع. كانت البداية الأولى للاشتغال في مسائل المعرفة، ومصدرها، وطبيعتها، وتعريفها، والكشف عن مفهومها بعد أن أدى اشتغال فلاسفة اليونان قبل سقراط في معضلة الحركة والتغير إلى اعتقاد كثير من أعلامهم بثبات المعرفة، وعجز رياح التغير والتبدل في التأثير في ثباتها. وتوالت آراء المفكرين في العصور والأزمان اللاحقة في سعيها للإجابة عن أسئلة المعرفة، ومصدرها، وحقيقتها وصولًا إلى القرن السادس عشر الذي علا فيه صيت العلم الطبيعي، ومجده، ونزعته التي بلغت أشدها في القرنين اللاحقين حين ذهب كثير من المفكرين في ذلك الزمان إلى الاكتفاء بالمنطق والتجربة دون ما عداهما في الاستنباط والاستدلال، وتحصيل العلم والمعرفة. وأما التقدم المعرفي والعلمي الذي أعقب ذلك الزمن، فيعجز القول عن وصفه وبيان حدوده ومنتهاه. وكفى بالمتأمل مثلًا أن يعلم أن الجزر البريطانية في عام 1870 كانت تمتلك أحد عشر مختبرًا علميًا للفيزياء، وبعد أقل من سبعين عامًا منذ ذلك التاريخ، تجاوز عددها ثلاث مئة مختبر، أما في يومنا هذا فتمتلك آلافًا من تلك المختبرات. يسعى الباحثون في علم المعرفة إلى تعريف مفهومها تعريفًا دقيقًا يميز بين مفهومها وبين مفاهيم أخرى قريبة مثل مفهوم الاعتقاد. وفي التفريق بين هذين المفهومين، يرى عددٌ كبير من علماء المعرفة أن المعرفة هي «اعتقادٌ صائب مُسوَّغ»، وهم بهذا ينفون أن تكون المعرفة اعتقادًا خاليًا من أي أدلة صحيحة ثابتة. ويفصل الباحثون في هذا المجال نافين أن تكون جميع الأفكار الواردة على الذهن من دون استثناء هي من نوع المعرفة. ففي أحيانٍ كثيرة تكون تلك الأفكار ظنونًا وترجيحات (presumptions) يغلب على الظن صحتها، وتؤخذ على محمل الحقيقة إلا إذا وُجد سبب من الأسباب يدعو للتوقف والتثبت. فعلى سبيل المثال، يغلب على الظن تصديق ما تخبر به الحواس على أننا نعلم يقينًا أنها لا تخبر بحقيقة الأمور على الدوام فالأجسام، مثلًا، تنحني صورتها في الماء إذا شوهدت، والقمر قد يتغير لونه وحجمه في نظر من يرى دون أن يكون ذلك من الحق في شيء. ويغلب على الظن أيضًا صدق الثقات من أهل الاختصاص كالعلماء والأطباء، وننزع على عادتنا إلى تصديقهم مع علمنا التام بالاحتمال الممكن بوقوع الخطأ، وضعف التقدير في رأيهم أحيانا. حري بنا إن رُمنا صحة الرأي والحجة أن نلتفت لهذه العلوم التي تصقل دراستها العقل، وتنظم مطالعتها الفكر. وحري بكلياتنا وجامعاتنا أن تهب ما يحتاجه طلابها من تلك المعارف، وقبسًا منها يستنيرون به لإكسابهم ثقافةً منيعة في الدراسة والبحث، ولإعدادهم إعدادًا متينًا للخوض في غمار العلم والبحث في زمنٍ تأخرنا فيه عن الركب. أسامة أحمد السويكت