كل كاتب ينضح قلمه بحشاشة صدره، طفولته، خبراته، سنين قد قضاها يتعلم ويتعثر ويخطئ يحب ويكره ويلاقي صنوفًا من البشر، اعتدت أن أحب روايات الأطباء، فرواياتهم فيها غوص في النفس البشرية وتمحيص لحقائقها ولذاتها ومنغصاتها، كما أن فيها نوعًا من الكفاح والصعود الذي تملؤه العراقيل محبب كثيرًا، يتخللها نكهة لاذعة من السخرية أو الفكاهة وتواضع يحملك حملًا على الوقوع في حب أبطالها. ثم اكتشفت أن من الحقوقيين من هم بارعون بذات المقدار أيضًا، لكنها المرة الأولى التي أقرأ فيها لسياسي محنك. والرواية التي يكتبها الساسة قديمة ومتداولة وشهيرة جدًا، فالسياسيون تتطلب مهنتهم القرب من عامة الشعب وجس نبضهم والتكهن بمطالبهم وحدس هتافاتهم طوال الوقت، وهكذا كان جوناثان سويفت مؤلف رواية الرحلة والمغامرة الأشهر دون منازع رحلات جاليفر. ولد جوناثان في دبلن إيرلندا عام "1667" وعاش حتى عام "1745"، أي في حقبة أطلق عليها المؤرخون عصر "التنوير" في أوروبا، وقت سئم في الناس الصراعات السياسية واتجهوا إلى العقول يصقلوها وينحتوها ويعنوا بها فكرًا وقراءة ونضجًا، وسويفت بريطاني الأصل واضطرت أسرته للنزوح إلى أيرلندا إثر سقوط الحزب الذي كانت تدعمه واضطهاد أنصاره من بعدها، ونظرًا لوفاة الأب وفقر الأسرة عاش سويفت الابن السابع مع أعمامه الذين عنوا به وألحقوه بجامعة مرموقة، وأوصل تعطش سويفت للعلم وجده وحبه للاطلاع إلى مناصب مرموقة، استطاع سويفت العودة إلى وطنه إنجلترا وصار من سياسييها البارزين، وانطلق قلمه من عقاله في مقالات أشعلت الرأي العام آنذاك، ونشرت كتبه التي كان قد ألفها بالفعل من وقت طويل وأبقاها خزينة أدراجه، وصار رئيس حزب المحافظين فيما يشبه بحلم لطالما زاره طفلًا وتحقق أخيرًا، وتحلقت حوله كوكبة من نخبة المفكرين والكاتبين والصحفيين حينها، لكن التاريخ يعيد نفسه، وهكذا انتهى حكم الملكة آن وسقط حزب المحافظين وسيطر حزب الأحرار لينتهي الحال بسويفت تمامًا كأبيه مضهدًا حتى عاد إلى دبلن وأخذ يدافع عن حقوق العمال فيها وبسيط أناسها إلى أن عُدّ بطلًا من أبطال إيرلندا وبقي فيها إلى وفاته، لكن رغم ما تكنه إيرلندا من تقدير واعتزاز ومحبة عظيمة لجوناثان سويفت إلا أنه ظل طوال عمره يحن إلى وطنه إنجلترا ويحلم بأن تفرد له البطولات والإنجازات هناك فقط، وكان لسويفت حبيبة غامضة تدعى ستيلا جمعت رسائله إليها في كتاب بعد وفاته، وهكذا اختلط الحب والسياسية والحنين ومنظور سويفت للبشر ونزوعهم إلى الشر في رائعته رحلات جاليفر. ولأن سويفت كان واقعيًا فكذلك جاء جاليفر إنسانًا من لحم ودم، طبيبًا بتاريخ ميلاد ونشأة وأسرة وإخفاقات ونجاحات بسيطة، وكان لسفنه التي أبحر بها أسماء بقباطنة وبحارين لكل منهم قصة وظلًا على الأرض، هذا إلى أسماء المواني والعوالم التي زارها وتعلم لغة أهلها ومكث يستأنس عاداتهم ويتعلمها ويكتب عنها. تضمنت رحلات جاليفر أربع رحلات، وكانت رحلتاه إلى أرض الأقزام ومن ثم العمالقة هي الرحلتان الأشهر له ربما لأن غرابتهما واضحة وقصتهم جذابة وممتعة، ولذا عُني بهما المترجمون والقراء أكثر من غيرهما، وكان لوصف سويفت المدقق لبيوتهم وأثاثهم ومتاعهم ما يحملك على التصديق بوجود هاتين الأرضين الخياليتين، وفي رحلته إلى عالم الأقزام يتحول جاليفر إلى متعة لأهلها، ويعملون على خدمته والإعجاب بضخامته قبل أن يتمادوا في تجاربهم على جاليفر ويعدوه غير بشري، وتدبر مؤامرة لفقء عينيه فيهرب جاليفر بحياته، وفي عالم العمالقة الذين أوتوا القدرة على أن يفعلوا به ما شاؤوا كانت الطيبة والشفقة به هما كل ما لاقوه به، في إشارة إلى أن حجم الإنسان ومركزه لا علاقة له بالطيبة والشر فيه، وتضمنت الرحلة الثالثة الجزيرة الطائرة (لابونا) التي ينشغل فيها أهلها بالنظريات العلمية ويأتون بأحدث الاختراعات، لكن للعجب فلا شيء منها يسهم في راحة سكانها ولا تزيدهم النظريات والاختراعات إلا تعاسة وفقرًا فحسب، وفي الرحلة الرابعة يصل جاليفر إلى الرحلة الأعجب والأكثر فانتازية من كل رحلاته السابقة، وفيها يلتقي بنوعين من المخلوقات الأول خيولًا ناطقة بديعة المنظر رائعة الجمال لا يسري فيها غير الصدق ولا تقدم إلا على كل خير ولا تطوي فطرتها إلا السرائر النقية الذكية الوضاءة، والآخر مخلوقات دنيئة قذرة مفطورة على الشر، وبعد تدقيق يكتشف جاليفر أنهم إنس في أدنى حالاتهم وأحطها، وبعد أن يتضح للخيول أن جاليفر إنسانًا يحمل من الشر في خافقيه بأكثر مما يحمل من خير تأمره بالرحيل بلا عودة فلا يسعه إلا الانصياع. رحلات جاليفر التي صدرت في مستهل القرن الثامن عشر رافقتنا نحن الأناس اللاحقون طوال سنوات بعدها وألهبت خيال طفولة العديد منا، أذكر شارلوت برونتي وهي تتحدث عن إعجاب شخصيتها جين إير بالرحالة العظيم جاليفر، ولطالما عرفت أنها قصة خلابة ملهمة لكن شخص مؤلفها جوناثان سويفت وعبقريته هي المفاجأة الحقيقة بالنسبة لي. تعرفتُ رحلات جاليفر للمرة الأولى في الفيلم الرائع الصادر عام "1996" وكان إنتاج الفيلم إبداعيًا وفيه عناية ممتعة بالتفاصيل، ومازلت أذكر الخيول الجميلة البيضاء التي قابلها جاليفر في نهاية رحلته وهي تتعجب من اختراع البشر للكذب "لكن الكلمات وجدت من أجل نقل الحقيقة فإن حولت عن ماهيتها فما نفعها إذًا؟"، عدت هذه النسخة من أجمل ترجمات رحلات جاليفر ونالت عدة جوائز إيمي. تُرجمت الرواية أيضًا لعدد من الأعمال الكارتونية والسينمائية منذ وُجدت السينما ووجدت لها جمهورها وعشاقها، وكان آخرها الفيلم الكوميدي الصادر عام "2010" من بطولة الممثل الهوليودي الكوميدي الشهير جاك بلاك، وعلى الرغم من أنه عيب على الفيلم جنوحه للسخرية والكوميديا دون الالتفات للقصص والمواعظ التي لأجلها كتب سويفت روايته في الأصل إلا أن الفيلم حقق نجاحًا ساحقًا وجنى الكثير في شباك التذاكر.