تمر الأمة بأحداث جسام تكاد تعصف بهيكلها وتنخر في مقوماتها الفكرية ومقدراتها، في حين أن من أشد الأمور قسوة وأكثر إيلاماً حينما تنبثق الجراح من أبناء الأمة الواحدة بل والبلد الواحد، وكلما قاربت إمدادات الرعونة على النفاد توالت التموينات المغذية لهذا الجنوح المسيطر على الجوارح ليجهز على كل بادرة أمل توحي بتحكيم العقل والركون إلى الحكمة في التعاطي مع الأمور، رأس الحكمة مخافة الله فما برح إبليس اللعين وأعوانه يعيثون بالعقول فساداً، باستدراج الخطيئة وتزيين المعاصي بتسهيل إتيانها وإضعاف الجانب الوقائي للاستقامة الملهمة لكل تصرف نبيل خلاق وإضعاف جذوة التأثير بمغبة الأخطاء المهلكة لاسيما الاستهانة بالأنفس والتي يلاحق وزرها كل مخطئ وخائن لدينه وأمانته، بين الخيانة والاستقامة تقبع الشبهات لتلقي بظلالها الكئيبة وتقصي منطق التعقل في قراءة الواقع بشكل منصف، في حين أن أثمن صيد هو استغلال الاختلاف لاسيما وأن العائد من هذا التأجيج بات يصب في مصلحة أطراف بعيدة ولا ترغب الخير لأهل هذه الأمة، وكلما اتضحت الصورة واقترب الإدراك من قراءة الواقع بصورة منطقية والإحاطة بأبعاد وتبعات الفرقة والتشتت ازدادت أساليب التضليل شراسة لكي تبقى الصورة الحقيقية غائبة، وتطغى عليها الألوان المستفزة المنفرة بكل إيحاءاتها المنضوية تحت لواء الشر وأساطينه، وكما هو معلوم فإن الهدم أسهل من البناء، بل إن ما يتم بناؤه في سنوات يتم تدميره في دقائق، فإذا اختل التوازن وتداخلت التبريرات فإن استثمار هذا الاختلال يعد الأنسب لبسط وتهيئة الأرضية الملائمة للانقضاض على المبدأ وإفراغه من محتواه بل ونسف المثل العليا السامية والقيم النبيلة وبالتالي فإن الانسلاخ من القيم الأخلاقية سيكون متوافراً ما دامت القدرة على التأثير تتضاءل شيئاً فشيئاً، إن أخطر ما في الأمر تمرير الاختلاف في الآراء وتأجيجه على صفيح ساخن؛ بمعنى أنه لم يعد أخذاً ورداً وشداً وجذباً، بل يتواصل بتأليب فئة ضد أخرى وهنا تتسع الدائرة، ويكون الاحتواء عسير المنال لأن الحالة تنتقل من الفكر إلى الأخلاق، ومن التعقل إلى جنوح العاطفة، إذ يجب شحذ الهمم لإبقاء الضمائر مستيقظة، وألاَّ تتسلل الغفلة في جنح الظلام لتخلط الحابل بالنابل، وتمزج الخبيث بالطيب، فإذا رُوعيت هذه الجوانب ومنحت الأهمية القصوى من خلال إبداء أكبر قدر من المرونة ورحابة الصدر في تقبل الآراء لتبيان الصواب بأساليب منطقية وطرق تحاكي الوجدان والأحاسيس وتخاطب النفوس بصيغة تألفها ولا تنفر منها، ولا ريب أن التسامح وشيوعه بين أبناء الأمة على اختلاف الأنماط الفكرية المتباينة، وليست المتضادة يؤسس لبناء أرضية مشتركة تحدوها آفاق الإصلاح بالحكمة والموعظة الحسنة، وتتلمس كل ما يدرأ الشرور عن الأمة برؤية واقعية فاحصة.