تمر الأمة بأحداث جسام تكاد تعصف بهيكلها وتنخر في مقوماتها الفكرية والحسية، فمن حرب جائرة ظالمة أكلت الأخضر واليابس إلى اقتتال وتناحر بين أبناء البلد الواحد، والمستفيد الأوحد من هذا التصدع والتشرذم هم المتربصون الحاقدون الذين أعمى بصائرهم بريق النكوص الموغل في البحث الخانع في الوقت الضائع. إن من أشد الأمور قسوة وأكثر إيلاماً حينما تنبثق الجراح من أبناء الأمة الواحدة لتسدد سهامها نحو خاصرة الاستقرار تنفيذاً لرغبات أعداء الحرية والإرادة المستقلة أعداء الإنسانية، وكلما قاربت إمدادات الجنون على النفاد توالت التموينات المغذية لهذا الجنوح المسيطر على الجوارح، ليجهز على كل بادرة أمل توحي بتحكيم العقل والركون إلى الحكمة في التعاطي مع الأمور، فرأس الحكمة مخافة الله، وما قيمة الضمير الغائب عن الوعي، وكيف لا تتدفق العروق خجلاً من رهن المبادئ على نحو يهدم البناء، ويقوض وحدة الصف، فما برح إبليس اللعين وأعوانه يعبثون بالعقول، باستدراج الخطيئة وتزيين المعاصي، بتسهيل إتيانها من جهة، وإضعاف الجانب الوقائي للاستقامة الملهمة لكل تصرف نبيل خلاق، وإضعاف جذوة التأثير بمغبة الأخطاء المهلكة التي يلاحق وزرها كل مخطئ وخائن لدينه وأمانته من جهة أخرى، وبين الخيانة والاستقامة تقبع الشبهات لتلقي بظلالها الكئيبة لتطفئ نور الله، والله متم نوره ولو كره الكافرون، وتشويه للدين الإسلامي بصور مختلفة. ولا ريب أن أثمن صيد هو استغلال الاختلاف، فأصبح يتم بأساليب لم يعد كشفها متعسراً، ولا سيما أن العائد من هذا التأجيج بات يصب في مصلحة أطراف بعيدة ولا ترغب الخير لأهل هذه البلاد، وكلما اتضحت الصورة واقترب الإدراك من قراءة الواقع بصورة منطقية والإحاطة بأبعاد وتبعات الفرقة والتشتت ازدادت أساليب التضليل شراسة لكي تبقى الصورة الحقيقية غائبة، وتطغى عليها الألوان المستنفزة المنفرة بكل إيحاءاتها المنضوية تحت لواء الشر وأساطينه، وكما هو معلوم فإن الهدم أسهل من البناء، بل إن ما يتم بناؤه في سنوات يتم تدميره في دقائق، غير أن أقسى أنواع الهدم وأعتاها هو هدم البناء الفكري، فإذا اختل التوازن وتداخلت القراءات فإن استثمار هذا الاختلال يعد الأنسب لبسط وتهيئة الأرضية الملائمة للانقضاض على الفكر وإفراغه من محتواه القيم بإضعاف القناعات الراسخة وتمييعها، وبالتالي فإن الانسلاخ من القيم الأخلاقية سيكون متوفراً ما دامت القدرة على التأثير تتضاءل شيئاً فشيئاً، ومن ثَمَّ الركون إلى ثقافة بديلة تملأ هذا الفراغ، وهذا أخطر ما في الأمر. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل إن تمرير الاختلاف في الآراء بات يتم تأجيجه على صفيح ساخن؛ بمعنى أنه لم يعد أخذاً ورداً وشداً وجذباً، بل يتواصل بتأليب فئة ضد أخرى، وفرقة ضد أخرى، ليندرج تحت دائرة الانتقام، وهنا تتسع الدائرة، ويكون الاحتواء أشبه بالمعجزة؛ لأن الحالة تنتقل من الفكر إلى الأخلاق، ومن العقل إلى العاطفة، وكل هذا بطبيعة الحال نابع من ضعف التأثير كما أسلفت، وخصوصاً بمغبة الأخطاء من هذا الفعل أو ذاك؛ إذ يجب بادئ ذي بدء شحذ الهمم لإبقاء الضمائر مستيقظة، وألاَّ تتسلل الغفلة في جنح الظلام لتخلط الحابل بالنابل، وتمزج الخبيث بالطيب، فإذا رُوعيت هذه الجوانب ومنحت الأهمية القصوى، وإبداء أكبر قدر من المرونة ورحابة الصدر لتبيان الصواب بأساليب وطرق تحاكي الوجدان والأحاسيس، وتخاطب النفوس بصيغة تألفها ولا تنفر منها، وبين التآلف والتنافر ثمة من يتحيَّن الفرصة لزيادة حدة الخلاف من جهة، وتصويره من جهة أخرى معززاً للإقصاء والانتقاص وما أشبه ذلك. ولا ريب أن التسامح وشيوعه بين أبناء الأمة على اختلاف الأنماط الفكرية المتباينة، وليست المتضادة، سيؤسس لبناء أرضية مشتركة تحدوها آفاق الإصلاح بالحكمة والموعظة الحسنة، وتتلمس كل ما يدرأ الشرور عن الأمة برؤية واقعية فاحصة، فكما يراد بك يراد لك، ويبقى ما تريد، ألا وهو تحصين القيم والمبادئ والاعتصام بحبل من الله متين، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ}، وما دام هناك من يبني فإن البناء متى كان صلباً متماسكاً سيستعصي على الهدم، وهو كذلك بإذن العزيز الجبار. [email protected]