تلك الملتقيات قد تحمل في طياتها إمكانات الرقي والتألق الباهرَين، ولكن قد تنتهي بها -بسبب اندفاع الجماهير وجشع المتمركزين في القمم- إلى انهيار فجائي لكل ما تم بناؤه حتى تلك اللحظة إن أشد الفترات تأزمًا في حياة الأمم هي الفترات التي تعيش فيها حالة تغيّر اجتماعي، وتعيد فيها تشكيل بنائها الذاتي من جديد. وإن حالها في هذه الظروف تشبه حال الأحياء التي تدخل مرحلة "التحول البيولوجي"، حيث إنها طوال عملية التجدد تتقلب وسط أوجاع مخاض مرهقة، وتقاسي كروبًا مضنية، وتكابد آلامًا متتالية لكي تطرح عنها عناصر بالية مضرة، وتطور بدلًا منها عناصر جديدة نافعة... كذلك في فترات التحول الاجتماعي وبسبب الأحداث التي تثير حالة التوتر لدى الجماهير، لا مناص من الوقوع في براثن الأزمات سواء على مستوى الفرد أم المجتمع. أما إذا تجاهلت عمليةُ التخطيط والبناء "الثوابتَ" التي أبرزت جدارتَها مرارًا عبر اختبارات عديدة، فسوف تزداد الأزمة تعقيدًا وتؤدي بالمجتمع إلى أخطاء فادحة.. إذ قد يقع العقل والمنطق -في هذه الأحوال- صريعًا أمام العاطفة.. وقد تنفلت الأوضاع فيؤدي ذلك إلى الانحراف عن الخطط المرسومة، طبعًا ان كانت هناك خطط مرسومة.. وقد يتلاشى التناغم العام كليًّا نتيجة الحلول المؤقتة الضيقة والمشروعات الصغيرة المقصورة، فيواجه المجتمع نتائج مرعبة -لم تكن في الحسبان- تجري في عكس اتجاه الخطط المرسومة والآمال المنشودة.. وبالتالي فقد تندفع الجماهير وكذلك القيادات التي توجّهها -كما نلاحظ ذلك كثيرًا- إلى تصرفات عاطفية طائشة في المواقف التي تقتضي التعقّل والتبصّر والتدبير، ومن ثَمَّ يؤدي ذلك إلى ألوان من الهدم والتخريب في مرحلة البناء والتكوين. إن الشعوب والأمم كثيرًا ما تجد نفسها أمام "ملتقيات قدَرية" إبان فترات إعادة البناء ومخاض التحوّلات. تلك الملتقيات قد تحمل في طياتها إمكانات الرقي والتألق الباهرَين، ولكن قد تنتهي بها -بسبب اندفاع الجماهير وجشع المتمركزين في القمم- إلى انهيار فجائي لكل ما تم بناؤه حتى تلك اللحظة، والعودة إلى نقطة البداية من جديد، وتلك لعمري مأساة قلّما خلت منها حقبة من الزمان. بيد أن ما يجدر ذكره هنا، أن الفرد في فترات التغيّر والتحوّل تعتريه حال مغايرة للحال التي كان عليها في أيامه الطبيعية. إذ ينسلخ من الحالة الفردية انسلاخًا تامًّا، ويتقمّص بقميص "سيكولوجية الجماهير"، ويتحوّل إلى كيان جماهيري، حتى يصير جزءًا لا يتجزأ من الحشود التي تندفع كالسيل الهادر نحو اتجاه واحد تبتغي الوصول إليه ولا ترضى عنه بديلًا.. وفي سبيلها تلك تجرف كل ما حولها من عناصر، وتدفع كل ما يعترض سبيلها بغية الوصول إلى هدفها المنشود. وإن الأفراد الذين تعرضوا لتحوّل ذهني كهذا، لا يستطيعون أن يعملوا بعقلية الفرد المتثبّت الممحّص البصير، بل يندفعون مأخوذين ب "سيكولوجية الجماهير" وعقليتها، منقادين لتوجيهاتها، منصاعين لأوامرها. وإن ذلك النمط السابق من هذه العقلية ومفرزاتِها يختلف تمام الاختلاف عن نمط عقلية "الوعي الجمعي" ويتناقض معه تمام التناقض في مقاصده ومآلاته. إذ أن النمط الأخير ينبني في أصله على التعقّل والتمحيص والتثبّت والتروي، وملاحظةِ الحاضر والمستقبل معًا في التقدير والتدبير، ومعاينةِ الجزء مع الكل جنبًا إلى جنب في أن واحد. ومن ثَمَّ كنا وما زلنا نحض على ذلك النمط من الوعي وننصح به باستمرار. فبينما تطغى على النمط الأول عواطف غير منضبطة وحماس غير متزن وانفعالات غير منتظمة، يتألق في النمط الثاني التعقّل والتبصّر والانضباط والانتظام والحذر والتثبّت. وقد يبدو كلا النمطين من التفكير والسلوك متشابهين للوهلة الأولى من حيث الصورة الحركية والوعود المستقبلية التي تبشر بها، إلا أنه من المستحيل تجنُّبُ وقوع عواقب تتناقض مع جوهر الحركة وأهدافها في النمط الأول، في حين أنه في النمط الثاني لا مكان للتعثّر والانتكاس والفشل بالقدر نفسه على الإطلاق. إن "الوعي الجمعي" -بالمفهوم السابق- يحمل في أعماقه أسباب وجودنا وأسرار بقائنا أمة، إذ يستقي مادة حياته من منبع ثقافتنا الدينية وهويتنا الذاتية، وبفضله تتناغم مكارم الأخلاق مع الحياة الاجتماعية. أن الأفعال التي تصدر عن الأفراد ذوي "الوعي الجمعي" تنسجم فيها العاطفة الجياشة مع السلوك الواعي المنتظم، والحيوية المتدفقة مع الإقدام المتبصر المتزن. وإذا ما تم تثمين هذه الأفعال في فترات التحوّل فإنك لن تجد ميزانًا يستطيع أن يوفيها قدرها، لأنها قد بلغت قيمة ما بعدها قيمة بالدور العظيم الذي قامت به.. وشتان بين وزنها في مثل هذه الظروف الحرجة ووزنها في الأوقات العادية. أما الأفعال التي تصدر عن الحشود المندفعة ب"سيكولوجية الجماهير" فإنها لا تخلو من أخطاء كبيرة واضطرابات مدمرة. إن المبادرات والمشروعات التي تستهدف مقاصد سامية وغايات عالية تسمو بأبنائها من حال إلى حال، وترقى بهم من درجة إلى أخرى، وتظل تشحذهم وتصقلهم حتى تنضجهم وتجعل منهم كيانات متوحدة في مجموعة واحدة، وتُخرج منهم أممًا في أفراد. ولا شك أن أصحاب المشروعات الكبرى إذا نجحوا -أثناء إنجاز مشروعاتهم- في أن يقدّموا العقل على العاطفة، والتجربة والملاحظة على السلوك الحماسي، وأن يحيطوا مشروعاتهم بأنوار الرسالة الربانية.. إذا نجحوا في ذلك فسوف تدخل الحشود المندفعة بالعاطفة تحت تأثير تلك الحركة الحكيمة المتثبتة المتوازنة، وتنخرط في سلكها، وترقى في تحركها إلى موقع التعقّل والاتزان والانضباط، فتلتقي مع أرباب الاستقامة وأهل الاعتدال على خط واحد.. وهنا بالتحديد سوف يَبرُز "أربابُ المستوى" ممن تفوّقوا على الجماهير تبصّرًا وحكمة وفكرًا ليتفاعلوا معهم ويقاسموهم عواطفهم الجياشة وحماسهم المتدفق، وبالتالي سوف يظهر فضاء مركّب عجيب من حركة العقل والعاطفة. وهكذا فإن الأفراد الذين لا يستطيعون -بحكم مزاجهم البشري- أن يكونوا رجال تعقّل واتزان في كثير من الأحيان.. بعد تسرّب هذا الفهم الحكيم إلى وعيهم وشعورهم وتشربهم له، وبعد تقلّبهم في بوتقة "الوعي الجمعي" وانصهارهم فيها، وبعد قبولهم هذه الخميرة الحيوية واستيعابهم لها، ودخولهم في مراحل تحوّلية جوهرية وتَشكُّلِهم فيها.. فإن هؤلاء الأفراد سوف يتسامون إلى مرتقى عال وفضاء واسع يصبحون فيه أبناء مثاليين لمجتمع مثالي. وإن جميع التحوّلات التي تحصل في هذه الوتيرة الكريمة، قد لا نجد لها تفسيرًا معقولًا للوهلة الأولى، وقد تبدو لنا وكأنها تحدث في عالم من الخوارق بدفع من قوى غامضة خفية؛ بينما يمكن إرجاعها جميعًا إلى مرجعية أساسية حيوية، ألا وهي هويتنا الذاتية وشخصيتنا الثقافية المعنوية التي نهلت من روح الدين وتغذّت بجوهره وتشبّعت بحقائقه الخالدة. وإنه لمن الحقائق الكبرى التي لا تقبل الشك والمراء، أن أبناء أمتنا النجباء، بفضل هويتنا الذاتية هذه، قد اجتمع شملهم والتأم شتاتهم حول فكرة واحدة وعاطفة واحدة مرات عديدة طوال التاريخ؛ فانتظمت صفوفهم على غايات متبادلة وأحلام مشتركة، وخفقت قلوبهم بنفس المشاعر والآمال، ودافعوا جبنًا إلى جنب عن القيم السامية ذاتها، وكافحوا صفًّا واحدًا من أجل المبادئ العالية نفسها، واستبقوا فيما بينهم دون توقف أو فتور لتحقيق الرؤى المنشودة عينها والمقاصد السامية نفسها. صحيح أن هناك عوامل ودوافع أخرى لها سلطان على الأفراد والجماعات ولها تأثير على سلوكهم، ولكن عندما تتصل الأمة بجذورها الروحية وتُحكِم صلتها بأصولها الوجدانية، فلسوف يتلاشى تأثير تلك العوامل، ويبهت دورها، ويضعف وزنها. وإذا كانت وشائج الارتباط بين أبناء الأمة ومقوماتها التاريخية -المادية منها والمعنوية- وثيقة متينة مستمرة، فسوف يحلّق هؤلاء الأبناء الأوفياء نحو فضاءات الماضي الزاهر، وتتفاعل مشاعرهم القلبية بمشاعر أجدادهم النبلاء، ويندمجون معهم في جيشانهم الروحي وتألقهم الوجداني -بدفع قويّ من الوعي بالتاريخ- فتلتقي التصورات وتتوحد الآمال.. فيحققون بطولات تضاهي بطولات أولئك الأجداد، ويبدعون في تطوير أنظمة فكرية، ورؤى عالمية، ومبادئ ومشروعات جديدة تحمل قدرة التأثير على المجتمعات البشرية في بقاع الأرض كافة. ويمكننا أن نذكر لذلك نماذج بطولية عديدة في باب تاريخنا التدافعي التحاسبي مع القوى العالمية الكبرى مثل ملحمة "مؤتة" ورائعة "القادسية" ومعركة "مالاذْكُرْد" وأسطورة "جَنَقْ قلعة"... كما يمكننا أن نذكر عواصم عديدة في باب التذكير بموقعنا المرموق في الموازنات الدولية من خلال الخط التاريخي الذهبي الممتد من المدينةالمنورة إلى الشام، ومن الشام إلى بغداد، ومنها إلى إسطنبول. ونكتفي بهذا القدر هنا، اعتمادًا على فراسة القارئ وغزارة مادته المتعلقة بهذا الشأن في خزانة تداعياته التاريخية.