ذات مساء، شرفني الأستاذ الروائي أحمد السماري بنسخة من روايته "قنطرة" في لقاء ودّي غامر، جمّل لحظاته القصيرة مهما طالت؛ بوصفٍ شمولي للرواية، دعاني للبدء في قراءتها فور نهاية اللقاء، وحقيقة؛ فقدت الشعور بحاجز الوقت بين سطورها، لدرجة أني بتّ أستمتع بالنظر إلى أرقام الصفحات بينما تقفز برشاقة غزال عربيّ يركض مختالاً نحو بحيرة الواحة، تجسدت الرواية عبر شخصيّات جالت الحواري الشعبيّة، وتشربت ثقافتها، وصاغت حكايتها. كان عمر قراءة هذا العمل ليلة واحدة، تنقلت أثناءها ما بين الجلوس في مقعدٍ لم يعتد على تغيير جلستي مع كل فصل جديد ألج إليه، وما بين الجلوس خارجًا على مقعد آخر، بحثًا عن سلوان بطله رائحة المطر، يقاطعني من وقت لآخر هطول بعض القطرات على صفحات ما أقرأ، يتزامن ذلك مع تعبيرات كاتبها عن شعور الألم والمعاناة الذي تعايشت فيه مع أبطال روايته، ما بين "وحيد" الذي جسّد رحلة الفنّان الشعبيّ المرهف الحسّ، والذي صقلته الأوجاع، وعزفت على أوتار قلبه وتساؤلات عقله، كما كانت تفعل أنامله بآلته الوتريّة التي شغفت قلبه، فتحدثت من خلالها أنامله بما عجزت عن ترجمته الكلمات، رغم ما تناقله الشعراء عبر صوته من أبيات، وهناك شخصية "سارة" التي لم يكن لحكايتها نصيبٌ من اسمها، فقط؛ لكونها ما كانت عليه، مرورً بعدد آخر لا يقل أهمية عن منظومة "القنطرة" التي نسجت أحداثها بحرفيّة أذابت في حسي حاجز الزمان وحدود المكان، فكأنما هي في صورها المتناثرة نافذةٌ على بيوتِ الطيْن تكشف ما وراء ترابها الصامت من أسرار، وتدثّر رماد البؤس الذي لم يختر أبطاله ما هم عليه، ورغم ذلك كان لكل منهم لنجاته ما يبديه، فحتى حين يمتعض لحدثٍ خافقي، ينساب السرد مبررًا لكل الأثر ما خلفه من دوافع أحسنت وصف التسلسل النفسي والتصاعدي، وصولاً إلى الحبكة التي اتسمت بواقعية قلّ من يحسن تجسيدها، إضافة إلى عنايةٍ بارعةٍ تجلت في حسن الانتقاء لشواهد الشعر الشعبي وتراثه، ليكون كالقافية التي ينتظم بوجودها البيت، ويستقيم بها الشطر، ويكتمل فيها التجسيد الصادق، وأضاف لتلك الروعة الجميلة حتى في ألمٍ تجسده، فينعكس على قارئه بأن وصف معاني عميقة من حوار الذات، لا ينكشف لأي راوية، ومن ذلك وصفه لحالة "وحيد" في أحد مواقفه بقوله: "كان لديّ سؤال في عقلي، على ماذا أبكي؟ كنت مستقلاً لدرجة لا تسمح بالبكاء من أجل الآخرين، وأكبر من أن أبكي على نفسي"، كذلك حينما وصف حالة الجمودِ التي يتركها ذوبان الأسباب والدوافع، والشعور بالعجز، والضعف، فيقول في وصف حالة مّا: "لا نموت حين تفارقنا أرواحنا فحسب، بل نموت حين تتشابه أيامنا ونتوقف عن التغيير، حين لا شيء يزداد سوى أعمارنا وأوزاننا"، بل حتى حينما يتعلق الأمر بوصف حالةٍ خاصّة من المعاناة، تستعيد لذاكرتي كيف أنّ من لا يعاني لن يفهم المعاني، حين فاجئني بردّه على لسان أحد أبطال الرواية، مدافعًا عن نفسه تجاه من وصفه بالمزاجية، فيقول: "نحن المزاجيون المحكوم عليهم بالفهم الخاطئ، المتهمون بالغرور لأننا نصمت، نحن الذين لا نلجأ لأحد عندما نشعر بالحزن ونتعالج ذاتيًا، نحن الذين ظننا أننا عندما نغرق سنموت، وبسبب هذا الغرق نجونا، لا نرتب أماكن الأشخاص في قلوبنا ولكن أفعالهم تتولى ذلك"، وعلى ذكر ذلك فإننا هنا لا نرتب أماكن الروايات التي نجتاز عبرها عوالم خفيّة، لكن هذه الرواية لم تكتب لتندثر، ولم تسطّر لتنسَى، وحسبها من الوصف أنها كانت "قنطرة" بعنوانها وسطورها وكل أحداثها. * كاتب وناقد سعودي عبدالله الصليح غلاف الرواية