إنَّ «التاريخَ الذي ذهب لن يعود إلا في الحكايا»، وهذه الحكاية كُتبت حفظًا لوصية بطلها ولتُلفت النظر إلى ما استُدبر، وتكشف عمَّا استَتر وتبوح بما انكمى، وظنَّ أهله أنَّه انمحى أو غاب عن ذاكرة الورى. إنَّها حكاية تروي في ظاهرها عن إنسان استنار بظلمة فأزعجه خفوت لونه وتباين الألوان، فأقرَّ بحق الأبيض دون بقية الألوان، وحَيَّد الأسود من أجل السياد. أما باطن الحكاية فتقرّ بأن لا ذنب للألوان بل الإنسان الذي مَنْطقها وصنَّفها وانتهى إلى تَحْييد السواد وإلصاقه بكل معاني الوحشية والظلام، وتحتجُّ الحكاية ساخرة عندما قاومت مَنْطَقة الألوان بمَنْطقة الألوان فجعلت الأبيضَ أسودَ والأسود أبيض فكان خيرُ الأسودِ لطخةَ بياضٍ في سواد شر الأبيض اللانهائي! (أرضُ اللهِ) هي أولى العتبات التي تُقابلك في النص وتأخذك إلى أبعاد تفاؤلية؛ لارتباطها في أذهاننا بمعنى إسلامي عظيم هو الهجرة التي كتبها الله على نبيه وشرعها لعباده المستضعفين لأجل الحرية، بيد أن هذا المفهوم يصطدم مع العنوان الفرعي للرواية المذكور فيه: «حكاية عمر بن سيّد 57 عامًا في العبودية»، ويُحدث ربكة في ذهن القارئ سرعان ما تتلاشى عندما تُسفر صفحاتُها عن هجرة الروح واسترقاق الجسد، وأرض لا يطير غرابها، وأخرى قرعاء من كل فضيلة، قصماء لكل حيلة، وكلاهما في عين الحرِّ أرض الله. ثم تبدأ مع بطلها عمر بن سيّد العالم الإفريقي، في رحلة تكاد من رشاقة الحرف أن تأسرك وتُلزمك الإكمال؛ إنًّها مثل إيقاع نوبي إفريقي، يَطرق قلبك بإيقاع تتيقَّظ له كل حواسك في سطره الأول: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟!» ثم يهبط الإيقاع خلال صفحات من الاندهاش والصفاء ويبعث فينا شعورًا بالفضول كالذي ينتابنا ونحن نشاهد أقنعة إفريقية، ثم يعلو الإيقاع شيئًا فشيئًا حتى يلبِّب منك الفؤاد والذهن، ويستنفر مدامع عينيك، ويبثّ فيك الترقبَ والتكهنَ فتنطوي الصفحات بين يديك طويًا «ولكنَّها سنوات، وإنَّها تمر بالعذاب أو بدونه، تعمل فينا، تأكل من أعمارنا أكثر مما تأكله السياط، وتغوص فينا كما تغوص السكين في قالب زبدٍ، نُذهل عن أنفسنا، لا نتخيل أنها ستمر مع كل هذا الألم لكن السنوات لا تكترث بالألم إن كان يُحتمل أم لا، إنَّها تمر على أية حال». نعم، إنَّها حياةٌ طويلةٌ امتدت تسعين عامًا وأكثر، تاريخٌ طويل من الذكرياتِ القاتلةِ، وهروبٍ صوفيٍّ، واسترقاق فاحش، وجورٍ فاجرٍ، وحلمٍ طاهرٍ وقف يتيمًا أمام منظومة كاملة قامت على المنفعة الشخصية ظاهرها التنوير وباطنها التزوير، لسانها الاستعمار وفعلها الاستعباد والإقصاء! ثم مات.. نعم، تنتهي الرواية بالموت تمامًا مثلما ينتهي الإيقاع بضربة واحدة غير أنَّه لم يكن موت حلم بل كان موت صفحة وصورة واحدة من صفحات وصور الاستعباد! وإلا فظلم الإنسان لا ينتهي ونحن: « نحن مشاؤون» في هذه الحياة حتى تنقضي. تناولت الرواية العديدَ من الموضوعات الإنسانية خلال صفحاتها كالعلاقة الأسرية، وركَّزت على حب الأخت فيقول: «الأخت رائحة الشذى في دخان الأمكنة وشجرة الظلِّ في لهب الهجير». هذا الشعور الدافئ الذي يعززه وجود الأسرة دائمًا ما نجده في روايات العتوم. كما تناولت الوطنَ ومفهومه في نظر منفي بلا أي حقوق إنسانية، فأكدت أن الوطن ليس مجرد قطعة أرض يُحمل إليها الإنسان، فالشعور بالغربة ظلَّ ملازمًا لبطلها: «كنَّا بلا أوطان ولذلك كنَّا نحنُّ ونبكي، وتحنُّ وتبكي كلماتُنا» ذلك لأن الوطن هو ما:» يُشبهنا، إنَّه صورة حبِّنا وكبريائنا وهدوئنا وصفاء قلوبنا». لغة العتوم الشاعر أسفرت عن نفسها في مواضع عدة، منها: «أيَّها الحادي بنا ثكلى إلى البحر الكبير... ماضيًا في اللجِّ نحو اليابسة... ليس في البحر سوى البحر... سوى التيه... سوى الأحزان والموت المرير... والليالي الدامسة... فإلى أين تسير...؟! غنّنا حتى يرقَّ القلبُ في هَذِي الدروب القارسة... فنجوم الله ما زالت مع الأحزان تضحك... في ليالٍ عابسة... وسنضحك مثلما الأفلاك تضحك... أيها البحر الكبير...» وكانت هذه النقاط الثلاث توحي بانقطاع شيء من الذاكرة، وتهب فسحة للقارئ بعد صفحات تستعبر دموع عينيه وتستفزَّ ذاكرتَه ليُشارك خواطره مع عمر، فمن منَّا لم يغوه البحر ويسلبه ذكرى أو قصيدة أو صورة أو حتى خاطرة؟! قدمت الرواية أساليب التعافي من خلال النظر إلى الجمال وتأمّل الكلمات، ومقاومة الذكريات من خلال تذكرها، والاستمرار في العيش من خلال الحلم، وركَّزت بطبيعة السِّياق على الحرية التي تاق لها عمرُ حتى قبل استرقاقه؛ إذ كان أسيرًا لذكرياته الأليمة المتعلقة بشقيقته، ثم محاولته الهرب منها عبر هجرته الصوفية إلى (توبا) وانشغاله بالعلم، ثم استرقاقه من قبل الرجل الأبيض ومتابعته الهروب تلو الهروب. إنَّها رحلة ذكريات، وهجرةٌ روح بلا قرار فوق أرض الله، تكشف لنا عبر صفحاتها الزيف والكذب والوحشية خلف الشعارات التنويرية، وذلك الجمال الناعم والصفاء الناصع القابع في تلك الأدغال الإفريقية. إنَّها رحلة كُتبت: «لتحيي ما مات، لتُبقي الذكرى سيدة الحياة (ومعناها) ومع أنها تحرق وتؤلم، لكنها أيضاً تضيء وتكشف».