قراءة: محمد الحرز توطئة: مقاربة عمل روائي مثل «الموت يمر من هنا» للمبدع الروائي عبده خال، تتطلب وفق ما أتصوره استثمارا يذهب باتجاهين: الأول اتجاه لا ينظر إلى العمل ذاته من خلال التاريخ المنجز للروائي عبده خال، أو من خلال السياق الروائي في المملكة، فهذا النوع من المنظور أشبع مقاربة وتحليلا، وذهب به المتخصصون في النقد الروائي -الأكاديمي منه، وغير الأكاديمي- أي مذهب، بحيث أصبحت بعض الشخصيات الروائية عالقة في الذهن، لكثرة ما تم استدعاؤها بصورة لا تخلو -في أغلب الأحيان- من التكرار، والتنميط، والاستهلاك الصحفي. نقول هذا الكلام، على الرغم من الأهمية التي يكتسبها مثل هذا المنظور في الدراسات السردية، والإمكانات الكبيرة التي لا غنى للباحث عنها، في تتبع أدق التفاصيل في البناء الأسلوبي والفني للسرد المقارن، واستجلاء أهم السمات التي يتمتع بها أي منجز روائي في علاقته بمؤلفه أولا، وفي علاقته بالسياق الروائي بشكل عام، أو في المملكة ثانيا. لكن ما يزيد أهميته أيضا، هو توسيع زاوية النظر، والذهاب بها إلى أفق أرحب، يكون مدخلا لسبر أغوار النص الروائي بوصفه نصا ثقافيا وثيق الصلة بمفهومه الانثروبولوجي، وذلك بما يشتمل عليه من تصورات وتقاليد ومفاهيم وقيم ترتبط بالموقف من الكتابة والحياة والعالم والإنسان والوجود. هذا الطموح إلى الأفق الرحب يقودني إلى الحديث عن الاتجاه الآخر: وهو المنظور المنهجي الذي أنوي من خلاله مقاربة رواية «الموت يمر من هنا» لاعتبارات تتعلق أساسا بالمكون الأدبي بمختلف أجناسه، والجغرافي والتاريخي وتقاليد كل منها داخل الثقافة في المملكة، سوف أوجزها في حينها، بعد أن أفصح عن عناصر هذا المنظور. فحينما نرصد المؤلف من موقعه الذي يشيد من خلاله بناءه السردي، ونرصد كذلك مواقع الشخصيات، والعلاقات القائمة بينها، وطريقة بناء خصائصها العامة، فإن الإجراء الذي نتوخاه، هو الكشف عن تعدد وجهات النظر التي تتماثل تارة، وتتقاطع تارة أخرى في فضاء السرد. إن فرضية تعدد وجهات النظر في النظرية النقدية ليست بالجديدة، ولا هي بالمنهجية الواضحة التي يمكن تطبيقها تطبيقا مدرسيا، وهناك طعون كثيرة على كون هذه الفرضية، لا تقدم أو تأخر، في سلم التقييم العام للعمل الروائي. فقد تكون رواية واحدة لا تشتمل سوى على وجهة نظر واحدة فقط، أفضل من رواية تتعدد فيها وجهات النظر. وبعيدا عن الجدل الدائر حول جدوى تحليل الرواية من هذا المنظور أو من عدمه، وكذلك عن الكلام حول الصعوبة التي تعترض طريق استخلاص قوانين عامة تنتظم فيها أنواع وجهات النظر، وذلك بسبب تعدد وجهات النظر بتعدد طرق السرد، والتي لا يمكن التنبؤ بأسلوبها الفني، أو التنبؤ باستنفاد طاقاتها المتنوعة في القص، هذا إذا قارنا بين رواية وأخرى عند مؤلف واحد، ناهيك إذا كانت المقارنة تتضمن عدة تجارب روائية مختلفة. فقد اخترنا في هذه المداخلة، أن نستعير من الناقد الروسي بوريس أوسبنسكي طرق مقاربته لوجهات النظر في السرد الروائي. وقد قسم هذه الطرق إلى أربعة مستويات هي كالتالي: المستوى الإيديولوجي، المستوى التعبيري (اللغوي)، المستوى الزماني والمكاني، المستوى النفسي. (وسنفصل تحديدا في المستوى الأول). (1) يقدم لنا مقترح أوسبنسكي فرصة لاستثماره، ليس في الكشف عن كيفية عمل وجهات النظر في بقية الفنون كالرسم أو المسرح أو السينما فقط، كما استثمره هو في عدة أعمال ومقاربات حظيت باهتمامه (2). لكن فرصة الاستثمار التي نريد أن نطبقها هنا، هي أنه من خلال هذه المستويات، يمكننا وضع إشكالات الرواية المحلية، في أبعادها المضمونية والشكلية، ضمن إشكالات الثقافة المحلية نفسها، وليس الاقتصار على حدود الأسئلة التي تخص الجنس الروائي نفسه فقط. فتح الأبواب على مختلف الأسئلة التي تطرحها الثقافة المحلية على نفسها كأسئلة الهوية، والعلاقة مع الثقافات الأخرى، والموقف من الحياة والتاريخ والإنسان والنص، ومن ثم ربطها بأسئلة الرواية، هي في ظني معالجة، تفضي بنا للوقوف على أنظمة التواصل التي تتحكم في شبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية والأدبية في مشهدنا المحلي. فالروائي لا يسرد حكايته، إلا بعد أن يكون قد اختار طريقة في السرد من بين مجموعة كبيرة من الطرق المتاحة، وسواء وعى هو بذلك أم لم يع، فإنه بمجرد أن يختار فقد دخل ضمن نطاق أحد أنظمة التواصل، ووقع في شبكة قوانينها، التي تسيره باتجاه متلق ضمني أو صريح. إن مجرد الاختيار هو في تصوره الأولي موقف إيديولوجي يماثل تماما موقف أي مفكر أو سياسي، يختار إحدى القضايا التي يتبناها من بين الكثير من القضايا التي تملأ فضاء الثقافة. ونحن بدورنا كنقاد نقع في الموقف الإيديولوجي ذاته، بمجرد ما نحاول أن نقرأ هذه الرواية أو تلك من المنظور نفسه، أي منظور الاختيار. لذلك تتيح لنا مخططات وجهات النظر، إعادة ربط دلالات هذه المواقف مع بعضها البعض، مهما اختلفت في نوعية الخطاب (أدبي، سياسي، ثقافي، ديني) الذي تتكئ عليه، في نظامها التواصلي. مما يثري فكرتنا عما يمكن أن نسميه التبادل الوظيفي بين الرواية من جهة والمجتمع والثقافة من جهة أخرى. إذن سنحاول في ما يلي أن نقارب بعض هذه المستويات من خلال رواية «الموت يمر من هنا»، موسعين من رؤيتنا في تطبيق هذا الإجراء، خصوصا على المستوى الأول، تاركين توضيح هذا التوسيع في حينه. وقبل الحديث عن هذا، سنذهب إلى أجواء الرواية كمدخل عام، يقارب بعض الظواهر السردية التي برزت في فضائهابالخصوص، موقع الحكايات، ووظيفتها، وتنوع حضورها. (1) القرية هي الحاضنة التي تدور فيها الأحداث، وتنمو فيها الشخصيات وفي جنباتها تترعرع وتكبر، وتواجه قدرها. قرية لا تتفتح فيها الحياة إلا بالقدر الذي يكون فيها الموت قد تباطأ قليلا عن وظيفته. هذه القرية التي تمتلئ بالجوع والخوف والموت تقع على أطراف الوادي، الذي لا يرحم لا بسيوله ولا بجفاف أراضيه. ناسها يحوطهم البؤس من كل صوب، إحساسهم بالخوف وشعورهم به يغذيه اتجاهان استطاعت الرواية من خلالهما أن تجلب إلى سطح السرد أعمق شعور بالخوف، يمكن أن يتلبس الشخصيات، الأول الخوف من الإنسان من جهة، والآخر الخوف من الطبيعة من جهة أخرى، وهو شعور مركب يكاد يخترق شخصيات الرواية من العمق. هذه القرية غفل لا يرتبط موقعها الجغرافي، الذي يتكفل السرد بوصف تفاصيله، بموقعها التاريخي. أي أن الرواية لا تعطي زمنا محددا إزاء ما تملك من تفاصيل المكان، وهي تستعيض هنا عن الزمن الصريح بما يبثه من دلالات مختلفة تشير إليه ضمنيا، وكأنها تريد أن تعمم نموذج القرية على خط الزمن دون أن يقع على نقطة محددة منه، حيث السارد يتبع هنا تقنية قصاصي الأثر، في تتبع العلامات التي يستدل بها على الطريق، وليست سنوات القحط التي جلبت بعثة العجم لإعطاء المؤن لأهل القرية، سوى إحداها. وهناك علامة أخرى. يقول السارد ص 13 «... وعندما سمعوا أن هذه القافلة لن تأتي محملة على الجمال أو البغال، بل ستأتي محملة على حديد يسير بدواليب وهذه أول مرة نسمع فيها بالسيارات، ولا نعرف كنهها...» (3). وهناك ثالثة يسردها موتان حين سمع أمه «رعنا» تخاطب إحدى قريباتها: «أيكونون (قصدها بعثة العجم) هم من سرق بيت المقدس وجاؤوا لسرقتنا. لا.. لا الذين سرقوا بيت المقدس يهود..» ص 17. وهكذا نجد الكثير من العلامات مبثوثة في فضائها السردي، حيث تلعب وظيفة الدليل الذي تكتمل على يديه عناصر الدلالة. من جانب آخر، تنهض الرواية على تناسل الحكايات من أفواه شخصياتها، حيث لا تجد شخصية إلا ولديها حكاية ترويها: كالجدة نوار، شبرين، درويش... إلخ، فالقدرة على الحكي الشفاهي، إحدى الوسائل والحيل السردية التي تنتهك فيها واقعية الحياة اليومية للقرية، وكأن الواقعية السحرية هنا لا تتوقف عند خلط الواقع بالخيال أو الأسطورة والعجيب، كإحدى الوظائف المهمة المعروفة لها في السرد، بل هي تؤدي وظيفتين، أشبه ما تكونان بالمتناقضتين. الأولى تعمل على تكريس حالة الشعور بالخوف والخنوع للظلم والاستسلام له عند غالبية شخوص أهل القرية، حيث تتجسد في فضاء الرواية، بصور متعددة، وفي مواقف مختلفة، حيث دائما ما يكون هناك راو وآخر مستمع أو مستمعون، في دلالة معبرة تقول: إن الحكاية هي من أهم أنظمة التواصل الاجتماعي والثقافي لأهل القرية التي تؤثر فيهم من العمق. 1- حكاية مريم (الراوي) أمام مستمع هو عبده راجح، تروي في جزء منها قصة أبيها حين تغيب عن القرية فترة من الزمن. تقول على لسانه «... عدت إلى أهلي وقريتي التي أشاعت حكايات لا تنتهي عن غربتي...» أو «... وظلت سيرتي مرعى خصبا لأقاويلهم لفترة من الزمن، كان جدك خلالها يصر على تزويجي، ليسكت تلك الأفواه التي تقذف الحكايات، فتصيبه بأذى» ص 334. 2- هناك أيضا موقف آخر له دلالته التي تتصل بالحالة السابقة: حكاية الأم صابرة أو «رعنا» التي تروي أمام أولادها: موتان وصالحة وجيلان، عن حياة زوجها الغريب (محمد) الذي قتله السوادي، بسبب تجرؤه عليه، وضربه إياه بالسوط ص 106. هي تروي الحكاية، في لحظة رعب وخوف يتلبس أولادها، من جراء انهمار المطر وتدفقه إلى عشتها حد الغرق. مغزى الحكاية لم يعمق سوى الإحساس بالخوف أكثر، فهذا التجانس بين دلالات الحكاية ودلالات الموقف يتضح أكثر حين فجأة تتوقف عن سرد الحكاية؛ كي يقفز علينا سارد آخر من جهة الأولاد، ويقول «فجأة توقف على صوت رعد هادر اهتزت له جنبات العشة وتساقطت أجزاء من لبناتها، ضمتنا إليها، وتنهدت بحرقة وعادت تغمغم: سبوح قدوس رب الملائكة والروح» ص 119.