ذات تأمل: رأيت جدتي «جرادة « -هكذا أسموها لأنها ولدت في زمن طغيان الجراد على مزارع الفلاحين- تؤوب من مرقدها البعيد، انضمّت لطاولة عشاءنا الرمضاني المعتاد. زوجتي والأبناء والبنات غير مرحبين بمجيئها المفاجئ كونهم غير مستعدين لاستقبال الضيوف اليوم. أما أنا فأوقعتني زيارتها في حيرة عم سنحدّثها؟ أنحدثها عن اهتمام الأبناء بلعبة الببجي ومنصة شاهد والروبلكس؟ هل نحدثها عن باب بيتنا الموصد في وجه الريح الطريدة والضيوف من الأقرباء والغرباء على حدٍ سواء علّهم يذهبون عنّا بعيداً؟ أم نحدّثها عن قرب افتتاح مول قريب في حيّنا ستذهب إليه الفتيات كل مساء لتناول الكوفي موكا والإسبرسو في مقهاه الفخم ثم مشاهدة فيلم Beasts of No Nation الذي ستعرضه صالة السينما في المول ذاته. عنّي سأحدثها عن ابنها «أبي» الذي غادر وأنا طفل في عمر الفجيعة! أبي الذي اخترع فجيعتنا البِكر.. بموت بشع ظلّ معه أفراد القبيلة يومين ونصف نهار اليوم الثالث وهم يحدقون في رأسه الملفوف تحت تلك الأغطية البيض لكي يحاولوا إنقاذ أنفسهم من جريمة قتله البشعة، راحوا معها يحيكون أحابيل الكذب لتدبير شكل مختلق لمقتله مع تَمْتَمة الوعّاظ في بِرْكَةِ صَمْت أقاربه. وقد نحدّثها عن «عطيه السوطاني» الذي كَفَرَ بالصمت وتدثر الشّعر وهو يشعلُ حرائقَه من مايكرفون صغير ليذهبَ باسطًا ذراعيه لتهامة يُهين من يهينها، ثائراً على «زمن الفوق» ويمشط شوارع جدة.. يتناول التبغ على طريقة الماغوط يهجر كل النساء ليكفل اليتامى مما يحصل عليه من كساوي الحفلات التي ركض فوق منصاتها بقدمٍ لم يستطع أحد بترها. أم ترانا نحدّثها عن ابن أخيها مسعود؟ الذي سكن القاهرة مع زوجته هارباً من غلاء فاحش اجتاح مدينته ومن ثقل ارتباطات اجتماعية لا تنتهي حيث تُنحر الخراف لضيوف القبيلة القادمين إلى جدة وعليه أن يكون في المقدمة مرحّباً بهؤلاء القادمين، ليعود بعدها ويستلقي كتمثالٍ مجروف في شقته البائسة، ينظرُ بكآبة إلى جيب ثوبه الفارغ.. ويحدق في بطاقة الصراف التي تحولت سريعاً مجرد كرت لا قيمة لها كما لو كان يراها ورقة توت سقطت عن شجرتها. غادرتنا جدتي مللاً من هذا الفيض من اللاجدوى التي أمتلئ وأحفادها بها، قبل خروجها قالت: أنتم مهددون بالتدمير لأنكم تعيشون وهم الحياة وتتردون في سحيقها. * حسبت أنني بحديثي إليها كنت أخبرها أننا نستطيع الانقلاب على سحيق حياتنا.. وأننا ممن ينهضون من رمادهم، كمخلوقات الأساطير! ظننت أن لدينا شيء نخبر به هذا العالم! ناصر بن محمد العُمري