إن قدرة بعض المناسبات التكرارية على الاستمرار عبر الزمن والانتشار عبر رقعة جغرافية واسعة هي إحدى سمات "الهوية الجامعة"، وهي هوية تملك المقدرة على خلق الشعور بالارتباط والانتماء إلى مرجع محدد تدور في فلكه جميع التقاليد المحلية.. يذكر كثير من المهتمين بالأنثربولوجيا أن المناسبات التكرارية، أي التي تتكرر كل عام، هي أهم مصادر تطور التقاليد والأعراف الاجتماعية وتدور حولها كثير من "الطقوس" التي عادة ما تختلط ببنية الثقافة المحلية وتتلون بألوانها. ويبدو أن رمضان بكل ما يعنيه من حضور ديني واجتماعي يعتبر أحد مولدات هذه التقاليد على مستوى الثقافة الإنسانية بشكل عام وثقافة المجتمعات الإسلامية بشكل خاص. لفت نظري عند الإعلان عن شهر رمضان هذا العام احتفال العاصمة البريطانية لندن بهذا الحدث لأول مرة في تاريخها، ويبدو أن هذا الاحتفال سيكون بداية لتطور تقاليد اجتماعية احتفالية في هذا البلد كما هي منتشرة في كثير من دول العالم. كما هو معروف، التقاليد تُصنع وتنشأ من العدم، ولا يوجد مناسبة خصبة مثل رمضان الذي يمتد لمدة شهر كامل وتتقاطع فيه الأحداث الدينية والاجتماعية العامة والأسرية الخاصة كي تولّد تقاليد جديدة باستمرار. كنت أتحدث مع أحد المهتمين بالتاريخ، وذكرت له أنني لم أجد دراسة تتحدث عن "تاريخ رمضان"، وذكرت له أني على يقين أنه لو أجريت مثل هذه الدراسة سوف نحصل على ثروة عظيمة من التقاليد والأعراف الممتدة إلى بدايات نشأة الإسلام زمنياً والمنتشرة على رقعة واسعة جغرافيا، وسوف نجد أن هذه التقاليد اختلطت بعادات الشعوب التي وصل لها الإسلام وقد تكون أثّرت على كثير من المجتمعات المجاورة. في ظني أنه يصعب أن تكتمل دراسة عن التقاليد دون دراسة تاريخ رمضان وفهم الكيفية التي تعاملت فيها المجتمعات المختلفة مع هذه المناسبة وكيف أثرت على تطور بعض العادات الاجتماعية التي تفرضها الحاجة والخصوصية المحلية. أذكر على سبيل المثال أن لرمضان تقاليده الخاصة في حارتنا القديمة في النعاثل في مدينة الهفوف، وهي تقاليد لم تعد موجودة اليوم، أهمها وجود "بوطبيلة" أو المسحراتي الذي كان يجوب الحارات كل ليلة وكنا نمشي وراءه ونحن أطفال، لا يمكن أن أنسى دموعه وهو ينشد في أواخر أيام رمضان: "الوداع الوداع يا شهر رمضان". ومع ذلك التقاليد تولد وتتطور وتضعف ثم تموت وهذا ما يعلمنا إياه رمضان. حجم وتأثير المناسبة التكرارية يحدد مستوى واستمرارية التقاليد التي تصنعها المناسبة ويحدد كذلك مقدرتها على ابتكار تقاليد جديدة حتى بعد أن تموت بعض التقاليد السابقة التي ارتبطت بها. رغم أن رمضان المعاصر في مدينة الهفوف يفتقر لبهجة الماضي المفعمة بالبساطة والتمام الناس حول بعضهم، إلا أن تقليد "القريقعان" على سبيل المثال استمر حاضراً بشكل واضح وإن كان تقلص وأصبح تقليداً أسرياً ولا يمتد خارج البيوت كما كان في السابق. ويظهر لي أن بعض التقاليد القوية التي تأبي أن تموت تقبل بأن تتكيف وتأخذ مظاهر جديدة وربما مختلفة عن جوهرها الأصلي من أجل أن تبقى. في اعتقادي أن "تكيّف التقاليد" ظاهرة تستحق الدراسة وهي مرتبطة بما تناولناه سابقاً حول "ديناميكية التقاليد" فكل ظاهرة تملك طاقة عالية مرتبطة بقبول اجتماعي واسع هي ظاهرة قابلة للتكيّف مع تحولات المجتمع الذي يمارسها ومُتقبّل لها، وبالتالي سوف نجد كثيراً من المظاهر حولنا تتطور دون أن نشعر وتأخذ أشكال جديدة وربما تنتقل إلى أشكال مختلفة يصعب أن نربطها بالأصل. هذه الدينامية التي تبديها بعض التقاليد تشير بشكل أو بآخر إلى مرونة المجتمع ومقدرته على إعادة تشكيل الممارسات الاجتماعية الخاصة به. أحد الأمثلة على المخزون الثقافي العميق الذي تُمكّن مناسبة رمضان من ابتكار التقاليد هو ما كانت تقوم به الجالية المسلمة في مدينة نيوكاسل الإنجليزية في منتصف التسعينات من القرن الماضي (في الفترة التي كنت أدرس فيها الدكتوراة) فقد كانت مناسبة رمضان هي انطلاق طقس اجتماعي يدعي "البيت المفتوح" بحيث تقوم أسرة كل ليلة من ليالي رمضان باستضافة من يرغب من أفراد الجالية وربما الأصدقاء من غير المسلمين، وتكون المناسبة استذكاراً وترفيهاً وأحاديث جانبية، لا أعلم إذا ما كان هذا العرف الاجتماعي "النيوكاسلي" لا يزال موجوداً، لكنه كان عرفاً يحث على بناء المجتمع المتناغم ويقرب بين الناس ويوسع دائرة التعارف والتفاعل الاجتماعي. ويبدو أن أغلب الأعراف والتقاليد التي ولّدها رمضان عبر التاريخ كانت ذات نكهة اجتماعية أو تدور في فلك البناء الاجتماعي. يبدو لي أن قدرة بعض المناسبات التكرارية على الاستمرار عبر الزمن والانتشار عبر رقعة جغرافية واسعة هي إحدى سمات "الهوية الجامعة"، وهي هوية تملك المقدرة على خلق الشعور بالارتباط والانتماء إلى مرجع محدد تدور في فلكه جميع التقاليد المحلية وتنتمي له حتى وإن تعددت وتنوعت أشكال وأساليب تلك التقاليد. ومن المؤكد أن رمضان بحضوره الدائم يشكل إحدى هذه المرجعيات التي تصنع مفهوم "الهوية الجامعة" مهما كان الزمان أو المكان الذي تمارس فيه هذه الشعيرة.