الهوية المعمارية تواجه إشكالات منهجية كبيرة يصعب التعامل معها، وبالتالي فإن أي محاولة لخلق هوية للمدينة المعاصرة ستواجه تحديات غير قابلة للحل، إلا إذا ما ركزنا على فكرة "الهوية المهيمنة" للمدينة بحيث تكون هي الهوية الأقوى بين مجموعة كبيرة من الهويات تحتوي عليها المدينة... يدور حوار ساخن بين المهتمين حول هوية العمارة في محيطها الحضري، وهو ما يثير العديد من الأسئلة المنهجية حول مستقبل المدن وهوياتها المستقبلية. مسألة نقد العمارة وعناصرها وأسباب تطورها ووصولها إلى مرحلة الاستقرار الفراغي والبصري له أهمية أساسية تتمثل في مقدرة سكان المدينة على ابتكار نظام للقيم يولد هويات المدينة عبر مراحل تطورها. قد يكون هذا المفهوم غير واضح بما فيه الكفاية لكن الفكرة تكمن في العلاقة بين سكان المدينة والمنتج العمراني ولأن السكان يتغيرون والعمارة تبقى، إذا هناك ما هو أوسع من صورة العمارة التي نراها إلى الصورة الذهنية التي نبنيها حول المدينة وتتغير مع الوقت حتى لو أن الصور المنظورة لم تتغير. كمدخل عام للفكرة، التركيز على المنتج النهائي للعمارة، لا يغني أبداً عن فهم سلسلة التطورات التي كانت سبباً في وجود هذا المنتج المعماري. هذه الفرضية الأولى لا تقيّم الأشكال المعمارية ومكوناتها الفراغية التي تُشكّل هوية أي مدينة فقط، وإن كانت هذه الأشكال والفراغات تعكس واقع البنية الثقافية والاجتماعية وتعبر عن الشتات المعاصر الذي تعاني منه المدن الحالية الأمر الذي ساهم بشكل واضح في تشتت الهوية. الفرضية الثانية التي ترتكز عليها هذه الدراسة هي أن كل الأشكال المعمارية كانت تمر في مرحلة نمو ثم استقرار، والذي نقصده هنا هو أن ما كنا نشاهده من أشكال بصرية في العمارة التاريخية، هي أشكال صنعتها إزاحات من التطور عبر الزمن، وخاضت تجارب عديدة تم فيها اكتشاف الأخطاء وتلافيها ومُورس فيها نوع من تهذيب الأشكال واختبار القدرات التقنية المتاحة، وكل هذه التجارب كانت تمر عبر مرشح منظومة القيم المشتركة التي عملت من خلال البنية الذهنية القيمية والتقنية والخبرة بالطبيعة المحلية للساكنين على تطوير الأشكال المعمارية وتهذيبها. يمكن هنا ربط مفهوم "صناعة التقاليد" الذي أثاره الكتاب الذي حرره "إريك هوبسباوم" و"تيرينس رينجر" The Invention of Tradition بهذه الفرضية التي ترى أن المجتمع التقليدي من خلال بنيته القيمية الجماعية الشاملة استطاع خلق تقاليده الخاصة وقام بتهذيبها وتطويرها، لكنها تقاليد صارمة في جانبها القيمي وأقل صرامة في جانبها المادي، حيث يخضع الجانب المادي غالباً لمتغيرات تقنية وتراكم للخبرات المعرفية والحرفية وتجدد الموارد. إذا هذه الفرضية التي ترى أن "التقاليد" تتشكل في منظومة تراتبية من حيث القوة والتأثير يقع على رأسها تلك التقاليد المرتبطة بالقيم الدينية ويليها التقاليد المرتبطة بالأعراف الاجتماعية وفي ذيلها تلك التقاليد المرتبطة بالتقنية والمهارات الحرفية، هي فرضية تحدد درجات القوة التي تؤثر على توجيه القرارات المولدة للعمران فهناك قرارات جوهرية تحافظ على بنية الهوية للعمارة والعمران وهناك قرارات ثانوية تسمح بالمرونة وتكيف الأشكال حسب مواضعها وظروف مستخدميها. هذه الآلية اختفت تماماً وأصبحت الأشكال تأتي جاهزة ومرتبطة بالأهواء الشخصية وتحولت الذائقة الجماعية المشتركة إلى ذائقة فردية مشتتة وبالتالي فإن هذا التحول يفرض إشكالية تشتت هوية العمارة والمدينة المعاصرة. الفرضية الثالثة تثير مسألتي العمارة كما نراها وما وراء العمارة. وهذه الفرضية تشكل حالة نقدية للمنهجية الوصفية للعمارة، حيث إن هذه المنهجية تركز على العمارة كما نراها، وتستمد الهوية المعمارية منها، وهذه المنهجية تنحو إلى المدرسة النظرية المعيارية، التي تضع معايير للطرز المعمارية وتربط الهوية بها، فعمارة المدينة التقليدية ذات ملامح بصرية تكرارية تشكل الطراز الذي يميزها، وهذا الطراز يتم تخليقه من خلال المادة والتقنية والخبرة المحلية التكرارية في إنتاج الوظائف المعمارية. بينما المنهج النقدي الذي يركز على ما وراء العمارة يعتمد على مفهوم الهوية النسبية للأشكال وأن معانيها الكامنة هي التي تحدد قيمتها وتؤثر على هيئتها وموضعها ضمن البيئة العمرانية بالنسبة لمن صنعها ومن يستخدمها بشكل دائم ومن يراها لأول مرة، فكل فريق يرى مستوى من الهوية العميقة مختلف نسبياً عن الفريق الآخر ويفسر العمارة الظاهرة تفسيرات مختلفة. هذه الفرضية، على وجه الخصوص، تركز على العلاقة بين الشكل ومحيطه العمراني وبين الشكل وكيفية استخدامه وتحاول أن تفسر أسباب "هيئة" الشكل الظاهرة والعوامل الباطنة التي ساهمت في تهذيب هذه الهيئة. على أن هذه الفرضية تواجه إشكالية التفسير الفردي المرتبط بالأشكال المتعددة غير المتفق عليها في المدن المعاصرة مما يجعل من مسألة الاتفاق على منظومة محددة من المعاني التي يمكن أن تصنع هوية ما للمدينة في غاية العصوية. خلاصة هذه الفرضيات الثلاث التي كانت تميز المدن التاريخية وخسرتها المدينة المعاصرة بشكل شبه كامل تجعل من قضية الهوية المعمارية تواجه إشكالات منهجية كبيرة يصعب التعامل معها، وبالتالي فإن أي محاولة لخلق هوية للمدينة المعاصرة ستواجه تحديات غير قابلة للحل، إلا إذا ما ركزنا على فكرة "الهوية المهيمنة" للمدينة بحيث تكون هي الهوية الأقوى بين مجموعة كبيرة من الهويات تحتوي عليها المدينة.