من المعروف أن الأعياد كافة في جميع الثقافات طورت تقاليد خاصة بها، وغالبا ما تتداخل هذه التقاليد مع الأمكنة في المدينة وتصبح جزءاً أساسياً من الذاكرة الجمعية، تظهر الإشكالية عندما لا تساند الأمكنة الذاكرة الجمعية المرتبطة بالعيد، وتبدأ هذه الذاكرة بالضعف والتراجع وأحيانا بالاضمحلال مع مرور الوقت.. طالما شعرت بعلاقة وثيقة بين المدينة والعيد، ولا أعلم لماذا أعتبر هذه المناسبة اختبارا ميدانيا لسعة الحياة وتنوعها في الفضاء الحضري؟! ولأني قد نشأت في مدينة قديمة كانت تحتفي بالعيد أيما احتفاء، وكان سكانها يعيشون العيد في الأزقة والبراحات، وكانت مجالسها مفتوحة كأنها مقاهٍ عامة، أقول لأنني عشت في تلك المدينة التي تضج ببهجة العيد والمكتظة بالحياة، لذلك صرت أرى أن العيد -وأنا أكتب هذه المقالة يوم العيد- أصبح يتراجع على مستوى الحياة، وتحول إلى مجرد صورة باردة لحياة حضرية بدأت تتراجع منذ عقود. انتقال الاحتفال بالعيد من الخارج إلى الداخل لا بد أن يكون له أسبابه، فإما أن الناس صارت تفضل العزلة والفردية ولم تعد ترغب في مشاركة الآخرين فرحة العيد، وإما أن الفضاء الحضري نفسه لا يستطيع إتاحة الفرصة للمشاركة الجماعية، أو بمعنى آخر إن عناصر المدينة الخارجية لا تساعد على التفاعل الاجتماعي حتى وإن كانت من الناحية التصميمية والتنفيذية نفذت بشكل مناسب. يبدو أن العيد يمثل حالة نفسية/ اجتماعية غالبا ما تتصادم على فضاءات المدينة، وغالبا لا نكون مستعدين لمثل هذا الصدام. تنبع هذه العلاقة النفسية العميقة بين العيد كمناسبة تكرارية وبين الفضاء الحضري للمدينة من تطور تقاليد وظيفية، طالما ارتبطت بهذه المناسبة وطالما احتاجت إلى أمكنة كي تتمظهر فيها، وطالما تطلبت مشاركة اجتماعية متنوعة، فمن المعروف أن الأعياد كافة في جميع الثقافات طورت تقاليد خاصة بها، وغالبا ما تتداخل هذه التقاليد مع الأمكنة في المدينة وتصبح جزءاً أساسياً من الذاكرة الجمعية، تظهر الإشكالية عندما لا تساند الأمكنة الذاكرة الجمعية المرتبطة بالعيد، وتبدأ هذه الذاكرة بالضعف والتراجع وأحيانا بالاضمحلال مع مرور الوقت، ويبدو أن هذا ما حدث لدينا خلال العقود الأخيرة، حتى أن أبناءنا لم يعودوا يعرفون معنى العيد المديني الذي تحتفي به المدينة قبل الناس، تآكل الذاكرة هذا يجعل من مدننا تفقد جزءاً من هويتها، إذ يبدو أن الهوية ليس ما نراه فقط بل ما نشعر به، كما أن هذا التآكل يجعل أجزاء كبيرة من المدينة ليست ذات قيمة لدى الجيل الجديد، فيسهل الإساءة لمكونها الحضري واختفاء عناصرها مع مرور الوقت. خلال الأعوام الأخيرة حاولت أن أبحث عن ذاكرة المدينة، وأهمية ارتباطها بالمناسبات التكرارية -التي تحدث كل عام في التوقيت نفسه-، ووجدت أن المدينة السعودية أو على الأقل أوساطها التاريخية انفصلت عن ذاكرة سكانها، وأن هذا الانفصال يتسع بشدة مع مرور الوقت نتيجة لتراجع ارتباط الأجيال الجديدة بتلك الأوساط المكانية التاريخية وتلاشي التقاليد المرتبطة بها المفاجئ مع عدم القدرة على ابتكار تقاليد جديدة في المناطق الجديدة، أي أن الإحساس بالهوية والانتماء للمكان المرتبط بالممارسة الحياتية في المكان آخذٌ في التراجع بشكل واضح دون أن يكون هناك بديل حقيقي أو تقاليد جديدة حقيقية يمكن أن تعيد الترابط بين الناس ومناسباتهم التكرارية ضمن أمكنة المدينة. هناك من يعتقد أن الهوية تتحقق في خلق الأمكنة التي تذكرنا بالماضي، ويتناسى أن موقفنا من هذه الأمكنة وكيفية تفاعلنا معها هو الفيصل في ولادة أي هوية، وبالطبع يتركز الصراع بين المادة (المكان) وبين ما يحركه المكان داخل عقولنا وقلوبنا وما يولده من تقاليد اجتماعية تعيد تعريف نمط حياتنا في هذا المكان وتشحذ قدرتنا على خلق تقاليد جديدة تمكننا من تفسير المكان وبناء ذاكرة جديدة له، إحدى القدرات الأساسية التي يتمتع بها الإنسان هي إمكانية خلق التقاليد الجديدة وتطويعها للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الآنية، وإضفاء هذه التقاليد على الممارسات الحياتية في الأمكنة الجديدة، ويبدو أن هناك أمرا ما يعطل هذه القدرة في المدينة السعودية، الأمر الذي جعل كثيراً من المناسبات التكرارية "روتينية" ومنفصلة عن روح المكان. في اعتقادي أن ملاحظتي حول "العيد والمدينة" -وهي ملاحظة قديمة- جعلتني أثير تساؤلاً مهماً: هل نحن بحاجة أن نصمم أمكنة يمكن أن تشجع الناس على التفاعل معها، وتطوير تقاليد وذاكرة تتراكم وتتطور باستمرار؟ أم أن هناك خللاً ما أصاب أسلوب الحياة للأسرة السعودية جعلها منعزلة من جهة وغير مكترثة بالتفاعل الاجتماعي الواسع ودفعها إلى التقوقع المكاني من جهة أخرى، حتى وإن كانت مظاهر الحياة المعاصرة بدأت تتغير وتدفع الأسرة إلى الخارج أكثر من السابق؟ في واقع الأمر لطالما ترك العيد أثراً عميقاً على فهمنا للمدينة، لكن يبدو أن أسلوب الحياة الاستهلاكي والتخطيط العمراني الطبقي فكك المدينة إلى مجالات مكانية متصادمة غير متناغمة، لا تستطيع بناء تقاليد يمكن أن نقول عنها إنها تقاليد مشتركة.