تبرز الوقائع والأحداث المتوالية أن ثمة معارك ضارية بأبعاد استراتيجية واقتصادية، تتحكم فيها حسابات إقليمية ودولية، توازي الحرب الجارية في أوكرانيا، فروسيا عبّرت في عدة مناسبات عن انزعاجها من تمدد حلف شمال الأطلسي "الناتو" في محيطها القريب، بعد أن تمكن الأخير من استقطاب عدد من الدول الأوروبية التي كانت تُحسب على المعسكر الشرقي سابقاً، كما هو الشأن بالنسبة لجمهورية التشيك والمجر وبولندا وبلغاريا ورومانيا وألبانيا؛ بل وضمان عضوية عدد من الدول التي كانت تشكل جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، كما هو الأمر بالنسبة لإستونيا ولاتفيا وليتوانيا. وعلى الرغم من الإشكالات القانونية التي تحيط بتدخل روسيا العسكري في بلد مستقل ذي سيادة وعضو في الأممالمتحدة، ضمن تعارض واضح مع مبادئ القانون الدولي المتصلة بمنع استخدام القوة أو مجرد التهديد بها في العلاقات الدولية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتسوية المنازعات الدولية بسُبل سلمية؛ ظلت موسكو تُصر على أنها تمارس حق الدفاع الشرعي في مواجهة تهديدات حقيقية وأخرى مُحتملة، تتسبب فيها توجهات نظام كييف نحو "دعم النازيين الجدد"، وتهديد المصالح القومية الروسية، وفقاً لتوصيف موسكو. ويمكن اعتبار التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا بمنزلة رسالة واضحة تُظهر أن موسكو مستعدة لكل الخيارات لوقف زحف حلف الناتو نحو حدودها، وقد ربطت روسيا تدخلها العسكري في البداية بتحقيق أهداف محددة، تم إجمالها في تدمير البنى العسكرية الأوكرانية كسبيل لضمان حيادها، قبل أن يتطور الأمر إلى تغيير واقع جغرافي من خلال السيطرة على مناطق حيوية على الحدود الغربية لأوكرانيا، خاصة بعد الإعلان عن مصادقة الرئيس فلاديمير بوتين، في نهاية سبتمبر 2022، على ضم أربعة أقاليم أوكرانية هي لوغانسك ودونيتسك وزاباروجيا وخيرسون إلى السيادة الروسية، بناءً على "استفتاء الشعبية" نظمتها سلطات محلية موالية لموسكو. وبالتوازي مع ذلك، ظلت روسيا تُقلل من أهمية النظام الدولي الذي تقوده الولاياتالمتحدة، وتؤكد وجود مجموعة من الانحرافات والانتهاكات التي تورط فيها الغرب بقيادة واشنطن، منوّهة بأهمية إرساء نظام دولي تعدّدي يتيح لموسكو الاستئثار بأدوار عالمية وازنة تليق بمكانتها كقوة عظمى. أما أوكرانيا، المدعومة اقتصادياً وعسكرياً من جانب دول غربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدة، فهي تصرّ على عدم قبولها بالأمر الواقع الذي تحاول روسيا فرضه داخل البلاد، وتؤكد على حقها في الدفاع عن سيادتها وحرية اختياراتها السياسية والاستراتيجية وتوجهاتها الخارجية، كما تشير إلى أنها مُصممة على المُضي قُدماً نحو تحرير شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا في عام 2014. كما ترى كييف وعدد من الدول الغربية في التحرك العسكري الروسي، مجرد "سلوك عدواني" ينم عن الرغبة في إعادة واستعادة "أمجاد الاتحاد السوفييتي السابق" الذي كثيراً ما تحسر عليها بوتين في عدد من المناسبات. وفيما يحبس العالم أنفاسه انتظاراً لمآلات الحرب القائمة في شرق أوروبا، فإن سيناريوهات توسع نطاقات الحرب وأمدها ما يزال مطروحاً وبقوة في ضوء التطورات على الأرض، وفي مواجهة القوة النارية الروسية، بدأت الأسلحة الغربية تُحدث تأثيرات فأصبحت ضربات الجيش الأوكراني أكثر دقة، واستهدفت الإمدادات الروسية، حتى إنها تمكنت من ضرب شبه جزيرة القرم لأول مرة، وهو عمل مذهل لكنه رمزي بالأساس، لأنه يهدف إلى الحفاظ على الروح المعنوية الأوكرانية والدعم الخارجي". كل شيء في النهاية يعتمد على الدعم الغربي، ولا سيما الأميركي. وتثار هذه الاحتمالات في ظل عدم وجود بوادر لإنهاء تلك الحرب أو الجلوس على طاولة المفاوضات لإيجاد حل سياسي سلمي يُنهي واحدة من أخطر الأزمات التي تعبر في مضمونها عن "سلسلة من الحروب في حرب واحدة" تقود إلى حرب عالمية ثالثة.