فيلم 12 رجلًا غاضبًا (12 Angry men) .. تحفة سينمائية كلاسيكية خالدة لا تمل من مشاهدتها، رغم أنه فيلم أنتج في العام 1957م، واختار المخرج سيدني لوميت أن يتم تصويره بالأبيض والأسود، وأن تكون معظم مشاهده في غرفة واحدة، إلا أنك تشاهده بتركيز تام ولا تشعر بالملل لحظة واحدة، وفي كل مرة تتابع هذا الفيلم تخرج بفوائد وتأملات قد تختلف من فترة لأخرى.. ربما من يشاهد هذا الفيلم وهو بعمر العشرينات سينظر له بعين أخرى تختلف عمن هو في الأربعينات من العمر مثلا..! الفيلم يبتدئ بمشهد من المحكمة التي يفترض أنها المكان الذي يضمن لك العدالة على هذه الأرض.. و96 دقيقة من زمن الفيلم كانت في غرفة المحلفين الذين أوكل لهم القاضي مهمة تبرئة أو إدانة فتى عمره 18 عامًا متهم بجريمة قتل من الدرجة الأولى. واشترط القاضي أن قرار الإدانة يجب أن يكون متفق عليه من قبل 12 محلفا. وكما هو معروف في نظام القضاء الأميركي أن هيئة المحلفين يتم اختيارها بطريقة تضمن ألا يكون هناك أي علاقة أو معرفة بينهم وبين أطراف القضية، وفي الغالب هم أعضاء لا يعرفون بعضهم، لا يعرفون الأسماء ولا أماكن العمل ولا طبقاتهم الاجتماعية ونحو ذلك. فالفيلم لم يذكر فيه أي اسم، القاتل يشار له بالفتى، والشهود هما الرجل المسن، والمرأة في الشقة المقابلة، وأعضاء هيئة المحلفين نعرفهم كل واحد حسب رقمه وترتيبه على الطاولة، وكأنه بذلك يذكرنا بروايات «جوزيه ساراماغو» الذي ينهج هذا النهج، فالأسماء لديه ليست ذات أهمية في بعض أعماله الروائية الشهيرة. وأثناء مرور الوقت والحوار بينهم تعرف خلفية هؤلاء الأعضاء وطبقتهم الاجتماعية وأعمالهم وبعض تفاصيل من حياتهم الشخصية، وخبراتهم في العمل كهيئة محلفين بعضهم يكون ضمن الهيئة لأول مرة، وبعضهم لديه خبرة لا بأس بها. فالشخصيات تم انتقاؤها بعناية بحيث تمثل عددا لا بأس به من الشخصيات التي يمكن أن تقابلها في حياتك أو التي يمكن أن تتمثل بعض آرائهم وأفكارهم في موقف ما. بعد طلب القاضي يتجهون لغرفة التشاور، والفتى ينظر إليهم نظرة استعطاف واستجداء، والبعض منهم لم يكلف نفسه النظر لهذا الفتى، والبعض الآخر ينظر له نظرة ازدراء واحتقار. وبعضهم اتخذ قراره سلفًا بأن الفتى مذنب ولا حاجة للتفكير في شهادة الشهود والأدلة ونحو ذلك. يقترح أحدهم أن يجلسوا على طاولة الاجتماعات مرتبين حسب أرقامهم، وحتى هذا الترتيب ربما لم يكن ترتيبا اعتباطيا، فالعنصري المحتقر لأبناء الأحياء الفقيرة، يجلس مقابلا للمحلف (رقم 5) الذي أعلن بعد نوبة غضب ما بأنه من هذه الأحياء الفقيرة وليس بالضرورة أن يكون مجرما. المحلف (رقم 8) الموضوعي والمحايد يجلس إلى جوار المحلف (رقم 7) أكثرهم استهتارا وأنانية، فهو يريد أن ينتهي من هذا الموضوع بأسرع ما يمكن حتى يحضر مباراة البيسبول لفريقه المفضل، دون أن يأبه بحياة الفتى، يطلب منهم المحلف (رقم 1) الذي نصب نفسه قائدا للجلسة، وهذا يعود لطبيعة عمله فهو مدرب وأدار الجلسة بشكل جيد، طلب منهم التصويت للانتهاء من هذه القضية: من يرى أنه مذنب؟ ترتفع الأيدي جميعها ما عدا شخص واحد (المحلف رقم 8) مما يثير استغراب البقية؛ هل ترى فعلا بأنه غير مذنب...؟ ولكنه يجيبهم إجابة تنبئ عن شخصية لا تتبع رأي الأغلبية ولا تحب أن تظلم أحدًا، ولديها مستوى عالٍ من التعاطف. فيقول: أنا لا أعلم هل هو مذنب أم ليس مذنب، ولكن أريد أن نتكلم وهذا الفتى يستحق القليل من الوقت حتى نتناقش في أمره، تخيل لو كنت مكانه وأحدهم اتخذ قرارا متسرعا يخصك، إما أن تعدم وأنت بريء أو يطلق سراحك وأنت مذنب؟ ومن هنا تنطلق الحوارات الرائعة في الفيلم التي تتعلم منها الدروس الكثيرة. ومن هنا يبدأ الحديث عن شهادة الشهود والنظر فيها، فحتى المحامي الذي كُلف بالدفاع عن هذا الفتى لم يهتم كثيرا بالقضية، فهو مكلف من الدولة والموضوع بالنسبة له لن يحقق له أي مجد شخصي لذلك لم يتحقق من الأدلة التي قدمت له في هذه القضية. ما الذي يمكن أن نخرج منه من هذا الفيلم؟ وقد تختلف هذه الدروس والعبر من شخص لآخر. المحلف (رقم 8)، نعرف من خلال حديثه أنه مهندس معماري، ويمتاز بأنه موضوعي وحيادي، لم يتسرع في اتخاذ القرار كما البقية، حاول أن يعطي نفسه فرصة حتى لا يعيش تحت تأنيب الضمير لاحقا. فيستطيع من خلال حديثه مع بقية المحلفين أن يحصل على التأييد من الصوت الثاني الذي غيّر تصويته لغير مذنب، وهو المحلف (رقم7) أكبرهم سنا وأكثرهم حكمة، وكان يتحدث عن الشاهد العجوز وكأنه يتحدث عن نفسه، حين سألوه ولماذا يكذب هذا الرجل في شهادته؟ أشار بأنه لم يكن يكذب ولكن هذه هي المرة الأولى التي يحظى باهتمام أحدهم ويكون كلامه مسموعا ومهما، وهذه نقطة مهمة أن الشخص منا قد يسقط بعض الأمور على نفسه ويصعب أن ينظر للموضوع بطريقة قد تناسب الآخرين. ومع الحوارات المختلفة تبدأ الأصوات تتغير وتزداد كفة (غير مذنب). ومرة أخرى يظهر هذا المحلف الأناني (رقم7) الذي يغير صوته لغير مذنب، ليس لأنه اقتنع أو أصبح عنده (شك معقول) بالأدلة، ولكن لأنه يريد أن ينتهي من هذا الموضوع سريعا.. فهذه الغرفة مغلقة عليهم، وغضبهم يزداد مع الحوارات التي قد تمس بعضهم شخصيا، بالإضافة إلى الجو الخانق الحار والرطب، والمروحة التي لم يعرفوا كيف تعمل إلا بعد مرور وقت طويل نوعا ما. أكثر المحلفين عنادا، وهو أكثرهم غضبا وصراخا، هو المحلف (رقم3) والذي كان يبدو وكأن الموضوع يمسه شخصيا، رغم أنه ذكر في البداية أنه ليس شخصيا، ولكن طريقته في الحديث عن الفتى وكأنه يريد أن يُعدم فورا. ومع استمرار الحديث يتضح بأن لديه ابن هجره بعد خلاف بينهما، فهو يشعر وكأن ابنه قتله معنويا (كما فعل هذا الفتى)، لذا لديه رغبة شخصية في أن ينتقم من ابنه من خذل هذا الفتى، ولكن بعد أن يستمع لزملائه الذي غيروا جميعهم تصويتهم، والأدلة التي تم دحضها واحدا تلو الآخر، ينهار ويبكي ويصوت ب(غير مذنب) في مشهد يكاد يكون أكثر المشاهد تأثيرا وألما. والجميل في أن المحلف (رقم 8) الذي كان هو السبب في أن يغيروا جميعهم أصواتهم، هو الذي بقي معهم وساعده في لبس معطفه، كلمحة منه بأن الهدف ليس الانتصار لرأيي، بل الانتصار للحق، وأن نحاول رؤيته والبحث عن العدالة، فالعدالة تكمن في أفكارنا قبل أن تكون في المحكمة. وينتهي الفيلم بمشهد خارج أسوار المحكمة، بمصافحة المحلف الحكيم (رقم7) للمحلف الموضوعي (رقم8)، وسأله عن اسمه وعرفه باسمه كذلك. وكأنها إشارة احترام لهذا الرجل الذي حافظ على هدوئه وانفعالاته، ولم يكن غاضبا مثلهم فلم تحجب عنه الحقائق بسبب الغضب.