يندر أن يكتب مؤلف مسرحي نصه وفي ذهنه ممثل معين، لكن البريطاني جيم كارترايت كتب مسرحيته الموسيقية "صعود وسقوط ليتل فويس"، وفي ذهنه تحديداً الممثلة جين هاروكس. وبعد النجاح الذي لاقاه العرض 1992، قررت شركة "ميراماكس" شراء حق تحويل المسرحية الى فيلم، وأسندت الاخراج الى مارك هيرمان، الذي لم يكن أمامه إلا اختيار الممثلة الموهوبة ذاتها للدور السينمائي. يدور النص حول فتاة تدعى ليفي، اختصار ليتل فويس، أي صوت خفيض، وهو الاسم الذي أطلقته عليها أمها بسبب انطوائيتها وصوتها الذي كأنه لطفلة. ليفي على علاقة سيئة بأمها - الممثلة بريندا بليثن - بعد رحيل والدها، وهي تملك شخصية نقيضة، فهي امرأة لا تكف عن الحكي والضجيج الصوتي، تحب الحياة والخروج من البيت. مرة تعود الى البيت مصطحبة ساي راي - الممثل مايكل كين - مرتدياً سلاسله الذهبية وجزمة عالية من جلد الحية، وهو القادم من لندن بعد خفوت نشاطه كمدير في مجال الموسيقى والغناء. ترفض ليفي التحدث إليه، وتهرب الى غرفتها حيث تحتمي باسطوانات تركها لها أبوها. ويبدأ الصراع اليومي بين رغبة الأم في تشغيل موسيقى حديثة صاخبة، ورغبة البنت في تشغيل اسطواناتها التي تعود الى الستينات والسبعينات. ولأن البيت القديم يعاني من مشاكل في التوصيلات الكهربائية، فكثيراً ما ينقطع التيار الكهربائي، ليترك أهل الدار في مواجهة الصمت والعتمة. لا تحتمل ليفي الصمت، وهي التي تحتمي باسطوانات تجعلها تعيش في حالة نوستالجيا مرضية، شوقاً لأبيها وأيامه معها، فتغطي لحظات الصمت بغناء ينهل من مغنين اعتادت سماعهم، مثل شيرلي بيسي وفرنك سيناترا. في لحظة الصمت والعتمة تلك، يكتشف صديق الأم موهبة صوتية، مؤملاً نفسه أن يعاود نشاطه ونجاحه من خلال استغلالها. ويكتشف بعد محاولة صعبة للحديث معها صباحاً، قدرة الفتاة على تقليد نبرة أصوات المشاهير مثل صوت مارلين مونرو، فيبدأ محاولاته لشدها نحو عالم الموسيقى والاستعراض، وسط دهشة الأم وغيرتها، لكن الفتاة صعبة المراس. وتضيف بريندا بليثين في دور ميري الأم، الى رصيدها دوراً متميزاً آخر، وهي الحاصلة على جائزة مهرجان كان عن دورها في فيلم "أسرار وأكاذيب" قبل سنوات قليلة، وترشيح للأوسكار عن الدور نفسه. تعبر بليندا عن الشخصية بكامل جسدها، التوتر الدائم، الرغبة في الانطلاق، اضافة لتعابير الوجه التي تخفي اضطراباً وقلقاً. ويبدو أنها تتفوق في أدوار النساء غير الطبيعيات، شخصيات أقرب الى العصابيات، وهي هنا الأرملة التي تريد أن تنهل من الحياة قبل فوات الاوان. لذا تبالغ في ماكياجها للفت الأنظار، وترتدي ملابس ضيقة لامعة، ثم انها لا تكف عن الحكي، على عكس ابنتها، كأنها تخشى الصمت الذي يضطرها الى مواجهة نفسها. يقنع ساي راي صديقه مدير النادي الليلي في البلدة، أن يقدم ليفي في برنامجه الليلي، إلا أن الفتاة تصاب بالهلع عند مواجهة الجمهور، فيقترح أن تطفأ أنوار الصالة، لأنها اعتادت الغناء في الظلام، وفي مواجهة صورة والدها. بعد أن تطفأ الأنوار في الصالة تؤدي ليفي فقرة بارتباك وسرعة، وتختفي خلف الستار. مع كل ذلك، يشعر راي المتمرس في مجال الموسيقى، ان بعض التدريب يمكن أن يفيد لاخراج البنت من قوقعتها وخجلها. ويبدأ حملة دعاية للتحضير لليلة الكبرى. ويبدأ محاولاته مع فتاة شديدة الانغلاق على نفسها، حتى يقنعها أن تغني لذكرى والدها بائع الاسطوانات والأشرطة الغنائية. فتشترط ان يكون العرض لليلة واحدة فقط، فيوافق ظاهرياً، وفي داخله امل آخر. من هنا، تتبارى الممثلة جين هاروكس مع نفسها لتقدم التحول في شخصية ليتل فويس، ففي الليلة المتفق عليها، تغني وترقص مقلدة كل من تحبهم من المشاهير، مستحضرة وجه ابيها بين الحضور، وسط تصفيق عاصف ودهشة من هذه الموهبة المفاجئة بمن فيهم الأم المترددة ما بين الفرح والغضب، بسبب انشغال راي كلياً بابنتها. عند هذا الحد، يهيأ للمشاهد ان بامكانه توقع بقية القصة، فمن فتاة خجولة منطوية، سيخلق الفيلم شخصية مغنية تضرب ارقام التوزيع. لكن، وهنا المفاجأة الجميلة في السيناريو، تسير الحبكة في مسار مختلف تماماً. تنكمش ليفي في غرفتها مرة اخرى، رافضة اي ضغوطات سواء من امها او صديقها، مرددة: "قال لمرة واحدة فقط". يقوم الفيلم على شخصيات موازية ومتضادة في الوقت نفسه. شخصية ميري الأم مناقضة لشخصية ابنتها. لكن شخصية بيلي - الممثل ايوان ماكريغر - مصلح خطوط الهاتف الشاب، تشبه الى حد كبير شخصية ليفي. فهو منزو يعيش في شقة صغيرة، ويهوى تربية الحمام. ينجذب الى الفتاة ويحاول ان يساعدها بأن يتحدث اليها كإنسان، لا ككنز سيدر ثروة. وفي الحقيقة فان المخرج عدّل من هذه الشخصية في النص المسرحي، اذ كانت شخصيته اختصاصي في الاضاءة، الا ان المخرج ارتأى ان ادخال الحمام كمعادل موضوعي فكرة جيدة، اذ في النهاية وبعد ان يحترق بيت ليفي بسبب صاعق كهربائي، تلجأ الى صديقها الشاب، وأثناء حوارهما تطلق الحمام من سراحه، ببهجة وحس كبير بالحرية. لقد تحررت من اسر الماضي، بعدما دمر الحريق كل الاسطوانات الخاصة بوالدها، لقد عادت الى الحياة الواقعية، لكن وللغرابة بمساعدة شخصية تشبهها، وهو ما حصل مع بيلي نفسه. "ليتل فويس"، فيلم عذب فيه الكوميديا الخفيفة والموسيقى الحيوية، ثم والأهم من كل ذلك، شخصيات مرسومة باتقان اداها ممثلون قديرون. لم نشاهد مايكل كين مثلاً بهذا المستوى منذ فيلمه "تعليم ريتا"، وهو كفنان محترف عبر عن ذهوله من آداء جين هاروكس في دور ليتل فويس، لقد كانت دهشته حقيقية وليست تمثيلاً في ذلك المشهد كما صرح. وساعد التكوين الجسدي لهذه الممثلة على تقديم شخصية ليفي او ليتل فويس، فهي قليلة الحجم، لها وجه طفولي وصوت خافت لا يكاد يسمع عند الحديث، الا انه صادح وقوي لحظة الغناء. هناك ايضاً شخصية مدير النادي الليلي، الممثل جيم برودبنت، في دور ثقيل الظل، خصوصاً في محاولته تقليد الفيس بريسلي، او القاء نكات لا تضحك. المخرج مارك هيرمان قدم نفسه بصورة افضل كمخرج وكاتب سيناريو مما فعل في فيلمه الاخير "فرقة الآلات النحاسية" قبل عامين الذي صوره في منطقة كثافة عمالية. ونجح في تحويل كثير من المشاهد الى لحظات من الاثارة والترقب، في مشاهد غناء ليتل فويس في النادي، وانتقال الكاميرا ما بين بيتها، حيث يجري اقناعها من قبل الآخرين بالغناء، وبين النادي حيث ينتظر الجمهور ظهورها على المسرح. اضافة الى كل ذلك، كانت الموسيقى عنصراً قوياً في الفيلم، وخلفية اضافت حيوية ومتعة، وساهمت في عدم وقوع النص في الميلودرامية. كذلك ايقاع الفيلم السلس الذي تميز بمشاهد لا تكرر نفسها، او تكون زائدة عن الحاجة. "ليتل فويس" واحد من الافلام الذي اثبت تفوقاً لا يقل عن العرض المسرحي، يحكي عن اشخاص هامشيين في منتهى الواقعية، لكنه يشبه حكايات الخيال الفانتازية، ممتع ويبقى في الذاكرة طويلاً.