كل شيء حولي يتغذى عليه الحزن، يسطو على أغنياتي المفضلة، على أفلامي، على كتبي، الحزن الهادئ يتغذى على حُمرة الغيم، على انحسار شعاع شمس الأصيل، على الوجوه المتعبة التي أراها، على تفاصيل الملامح الناطقة، أو هكذا يُخيِّل لي حزني العزيز. عندما أغلق الكتاب، أوقِف الأغنية، أتراجع عن إكمال الفيلم، عندما أغلق النافذة، أسدل الستارة، أتجنب الرسائل، أتجاهل الاتصالات.. عندما أشعر بأني أحكمت إغلاق المنافذ، يجتر الحزن الذكريات، يسلط الظلام على أسوأ ما في ذاكرتي، يختار الأوجاع المخجلة، المواقف المغضِبة، التفاصيل المثيرة للشفقة، ثم يفاضل بين الدركات! حزني لا يحثو الذكريات في وجهي دفعة واحدة، إنه يمتلك الخبرة الطويلة التي تجعله يتفنن في تجريعي الزجاج والشوك والمرارة بدرجات متفاوتة، تحقق العذاب وتقي من الهلاك، الحزن ليس غبيًا حتى يتخلص من إحدى أدوات تسليته ومتعته، لذلك أنا حي، لأنه لن يستمتع حين أصبح جثة هامدة بلا روح، ماذا يفعل بتعذيب جسدي!؟ المتعة، كل اللذة في تقليب الروح على الموقد، في نارٍ تلسع بشكلٍ متقطع وحارق، ولكنها لا تُفني. هل قلت «حزني العزيز»!؟ نعم، هو كذلك. عندما تمتد العشرة وتستوطن العادة، تكون الهدنة والتقبل والتعايش أكثر حكمة وأقرب نجاة من استمرار مقاومة عبثية ومحاولات مستنزِفة بلا بوادر جنى! الركض المستمر لا يدل بالضرورة على قرب الوصول أو البعد عن الخطر، قد يقود لعمق متاهة خالية من العلامات والاتجاهات، مما يجعلنا نتمنى وقتها الوقوف على حياد المضض بين المأساة والأمل، طالما إننا نرى ظلامها وضلالها، وسرابها وبشائرها. كل ما أفعله الآن هو محاولة تعرية الحزن المتخفي، محاولة مضايقته، ولو بشكلٍ يسير، من جهة أخرى الكتابة حالة توثيق في حالة الوحدة والوحشة، وفي حالة انعقاد اللسان، قد تعزيني هذه القصاصات عندما أكبر ويصبح النسيان هو وطني الأوحد، عندما أحاول، حينها، فهم كيف وصلت إلى هناك! تفسير التجاعيد والشيب والتعب المقيم، تبرير الوحدة، الوحشة، الكف عن السؤال عن الأبناء الذين لا يأتون للزيارة، الأبناء الذين (نسيت) بأن ليس لهم وجود أصلا! من أجل كل ذلك، ومن أجل الحاجة للصراخ بلا حنجرة نستمر في الكتابة.