للمكتبات مع أصحابها قصصٌ ومواقف، وأيضاً طرائف وأشجان تستحق أن تروى، "الرياض" تزور مكتبات مجموعة من المثقفين، تستحث ذاكرة البدايات، وتتبع شغف جمع أثمن الممتلكات، ومراحل تكوين المكتبات.. في هذا الحوار الكُتبي نستضيف أ. د. عادل خميس الزهراني، أستاذ النقد الحديث بجامعة الملك عبدالعزيز. رحلة المكتبة الخاصة بضيفنا رحلة عمر، كما يصفها هو.. منذ طفولته المبكرة تلمس طريقه نحو مكتبة والده الغنية بكتب الدين والتاريخ. لكنه اشتق لنفسه طريقاً خاصة نحو عالم الأدب والفكر. الزهراني بروفيسور متخصص في النقد الحديث بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، كما أنه شاعر، وكاتب، وابن من أبناء الوسط الثقافي. عمل في الصحافة الثقافية لأكثر من عقدين ونصف، وله مشاركات مستمرة في المؤتمرات والمناشط الثقافية داخل المملكة وخارجها. يشغل الأدب الحيز الأكبر من مكتبته، التي امتدت من غرفة العمل الخاصة، لتأخذ حيزاً كبيراً من صالة الضيوف. دواوين شِعرية، وروايات عربية وعالمية، وكتب في النقد الأدبي واللغويات الفكر والفلسفة باللغتين العربية والإنجليزية، وهناك أرفف للتاريخ والسياسة والدين وبعض المنوعات الأخرى. "الكتب تتكاثر في كل أرجاء المنزل، والله يطرح البركة". ثقافة صحيفة «الرياض» منهل رائع * في أيِّ مرحلة من العمر تعرَّفتَ على الكتاب؟ * في مرحلة مبكرة، لا أعلم بالضبط، كان لدينا مكتبة في البيت، كانت مكتبة أبي محتضني الأول الوارف الظلال، وأنا أتلمس خطواتي الأولى في عالم القراءة العجيب. وعندما استقللتُ في بيت، كانت المكتبةُ أولَ الأثاث، وأشهى الإناث. * هل تستطيع تحديد بعض بدايات تأسيس مكتبتك المنزليَّة؟ * بدأتْ حكايةُ مكتبتي مع كتبي الأولى التي احتفظت بها من الثانوية والجامعة، أذكر منها ديوان إيليا أبو ماضي وأيام طه حسين وأعماله الأخرى، وسارة العقاد وأناه، وغيرها.. في تلك الأيام كنا نسافر خارج الحدود لنشتري الكتب!! وحين عادت معارض الكتاب للمملكة، عادت الحياة لتنتفض في عروق مكتبتي وبين رفوفها النابضة. * ماذا عن معارض الكُتب، ودورها في إثراء مكتبتك؟ * أنا من ذلك النوع الذي يجد سياحته في معارض الكتب، منذ وقت مبكر أصبح معرض الكتاب موعداً ثابتاً، وكنت أفعل كل شيء للإفادة واقتناء المزيد. أجمع مالاً مخصصاً لكل معرض (وأصرف أكثر بالطبع). أحدد قائمة كتب؛ وأشتري أضعافها. أضعُف أمام العناوين والأسماء ورائحة الورق. رائحة الورق كيفي الخاص، وإدماني العجيب. أتذكّر، كنت مع سمير -أخي- نتسكع بين المعارض، مرة يحمل سمير الكرتون، ومرة لا يسمح لي أن أفعل.. أذكر أن د. مجد حيدر صاحب دار «ورد» سألنا يوماً إن كانت لدينا مكتبة تجارية نتسوق لها بمثل هذا النهم، فأجبناه بالنفي، وبابتسامةِ تاجرين فاشليْن بالوراثة!! * ما أبرز المنعطفات التي رافقت نموَّ مكتبتك الشَّخصيَّة؟ * مكتبتي، صديقة عمري، ظلت تنمو وتتضخم.. كتبٌ أشتريها، وأخرى يجلبها لي أصدقاء من هناك وهناك، ذلك الذي يهديني كتاباً لا أنساه أبداً.. ومن أعيره كتاباً ولا يعيده لا أنساه كذلك. (مؤخراً علمتُ أن مجموعة من الكتب الثمينة التي أهديتها لصديق لم يبق منها غير الرماد.. يا حسرةً على العباد). ظلت مكتبتي تتنقل معي بين البيوت، وحين حانت البعثة وضعتها أمانةً في بيت والدي -رحمه الله-، وهناك أخذ أبي بثأره مني ومن كتبي، ويا لعجب الأقدار.. عاد أبي يقرأ من مكتبتي. وفقدتُ مجلداً عزيزاً وفخماً لمختارات نزار قباني... هل أهداه أبي لشخص ما؟؟ * حدثنا عن أوائل الكُتب التي دخلت مكتبتك؟ * ديوان «إيليا أبو ماضي» يمكن أن يكون أولَ كتاب اشتريته بنقودي، أربعون ريالاً اقتطفتها من فسحتي، وكان الديوان كتابي الأحمر. لم أستطع أن أفارق الكتاب حذراً عليه وتعلقاً به، كنت أحمله في كل مكان، في البيت والسيارة والمدرسة. لم يدمِ الأمر، وأصدرتِ المدرسة قراراً بمنع تداول كتاب طه حسين وديوان إيليا أبو ماضي في المدرسة.. كنتُ -بطبيعة الحال- الوحيدَ المعنيّ بهذا القرار. * ماذا عن نصيب الكُتب القديمة والنَّادرة؟ * ليس كثيراً، أحب الجديد، وأحرص عليه أكثر. * حدثنا عن نتاجك الأدبي ومشاركاتك الثقافية؟ * أنا ابن الوسط الثقافي كما تعلم، أفتخر بهذا. وحُقّ لي؛ عملت في الصحافة الثقافية لزمن طويل، ورأست القسم الثقافي في صحيفة المدينة. منذ الطفولة كان ملحق الأربعاء وجبة خاصة أحرص عليها نهاية الأسبوع (الأربعاء نهاية أسبوع الطيبين كما تعلم!)، وكانت ثقافة الخميس في صحيفتكم «الرياض» منهلاً رائعاً. من هنا بدأت أقرأ، وأقرأ، وأقرأ... وأكتب أحياناً. أكتب الشعر والمقالة، وتخصصي في النقد الحديث، لذلك لي مشاركات وأبحاث وكتب في النقد والنظرية، بعضها ظهر، ومنها ما ينتظر، نسأل الله العون. * هل يوجد في مكتبتك كُتب مُهداة بتوقيع مؤلفيها؟ * كثير.. كرم الأصدقاء لا ينقطع، ولا يسعني إلا الامتنان. عبده خال أهداني معظم رواياته. هو صديق قديم من أصدقاء الصحافة؛ عندي ثلاث روايات كتب فيها إهداء لي بثلاثة أسماء مختلفة. يشطبها ثم يعدلها.. عبده خال قلب كبير يجمعنا. * ما أطرف المواقف التي حصلت لك في البحث عن الكُتب؟ قبل سنتين أو ثلاث، وقعتُ -في جدة التاريخية- على مكتبة ثمينة اقتنصت منها بضعة كتب. سألت صاحب المكتبة عن عدة كتب فأخبرني أنها قد تكون في المستودع، فطلبت مرافقته.. لكنه قال: -ايش تجي معي؟! المستودع في حي الخُمرة، وفيه 13 ألف كرتون كتب؟ لمعتْ عيناي.. وندمَ بائع الكتب على ثرثرته. * بما أنك مُهتم بالكُتب ولديك مكتبة خاصة ما أبرز الكُتب التي تحرص على قراءتها؟ * الأدب أولاً وبعد كل شيء؛ أنا قارئ نهم للشعر والرواية، وهناك طبعاً النقد الأدبي بكافة اتجاهاته، والفكر والفلسفة. هنا ينصب معظم اهتمامي. * هل ساعدتك المكتبة الخاصة بك على التأليف؟ ساعدتني على الحياة.. على البقاء.. قبل كل شيء. * كم بلغ عدد مؤلفاتك حتى الآن؟ ومتى صدر لك أول كتاب وما هو؟ * نشرت حتى الآن ديوانين شعريين، ولديّ ثالث سيرى النور قريباً. عنوان الديوان الأول (بين إثمي وارتكابك)، وهي قصيدة أثيرة، كتبتها في بريطانيا، لكن كل نصوص الديوان الأخرى كانت سابقة لمرحلة بريطانيا، كانت القصائد كثيرة، لذلك انتقيت منها. ثم جاء الديوان الثاني (حدثَ في مثل هذا القلب) قبل ثلاثة أعوام. يضم نصوصاً شعرية كتبتها في مرحلة بريطانيا. وصدر لي حتى الآن كتابان في النقد أحدهما عن حمزة شحاتة والآخر عن نزعة التجديد في الشعر العربي، وهناك ستة كتب نقدية جاهزة للنشر، ستظهر تباعاً، بالإضافة إلى عملٍ سردي صغير. لعل شجاعتي تسعفني لنشره، لا أعد بشيء. * هل تستفيد أسرتك من مكتبتك في الاطلاع وإعداد البحوث؟ * تستفيد.. على حذر طبعاً. * هل طرافة الكتاب أو طرافة موضوعه من معايير انتقائه؟ * ليس بالضرورة. لا أحرص على هذا المعيار، ولعله المتهمُ خلفَ حفنة قليلة. بذكر هذه النقطة، حدث لي أمر غريب في معرض الرياض، مع دار نشر عربية. اقتنيت عدداً من الكتب المهمة في النقد والفلسفة، طباعة رديئة ورخيصة، لكن السعر خيالي، الكتب غالية على القلب والجيب كما تعلم. ليس هذا هو الغريب. حين عدت إلى الفندق وجدت بين الكتب الرديئة الطباعة، الجيدة المحتوى، كتاباً لا ينتمي شكلاً أو مضموناً. طبعة جميلة وملونة، وورق جيد، لكن المحتوى كتاب بائس، لم أختره طبعاً، دسه صاحبنا بين الكتب وورطني فيه. لا أعلم إن غافلني في حسابه أيضاً، عند الله تجتمع الخصوم. الكتب غالية على القلب والجيب * هل يوجد من قراءاتك كُتب لا تزال عالقة في الذهن، وما أسلوب الكاتب الذي يعجبك؟ * لا يوجد في ذهني غيرُ كتبٍ عالقة، وكُتّابٍ عالقين. قائمة الكتاب المفضلين تطول وتمتد: أمين معلوف، تيري إيقلتون، تودوروف، سعيد السريحي، ميشيل فوكو، جورج طرابيشي، جاك دريدا، غازي القصيبي، الزواوي بغورة، سيزا قاسم، رضوى عاشور، ربيع جابر، إسماعيل فهد إسماعيل، كيليطو... الصفحة لن تكفي، صدقني. * ماذا تُفضل.. المكتبة الورقية أو الرقمية؟ وما السبب؟ * الورقية. لا أعلم لماذا. الكتاب الرقمي خيار رائع، لكن الكتاب الذي أتعلق به، لا أقرؤه إلا ورقياً. أحياناً لا أجد غير نسخة بي دي إف.. فأطبعها، لأقرأها. هذا يليق بجيل الطيبين، أليس كذلك. لدي قصيدة بدايتها هكذا: الطيبون عبروا سُدى.. وكأنهم ما كانوا!! * هل مكتبتك متخصصة أم متنوّعة؟ * متخصصة. معظمها أدب ولغة ونقد وفلسفة وفكر. وجزء صغير للمنوعات. * هل تقتني الكتاب من خلال توصيات أو بانتقاء شخصي؟ * في الغالب انتقاء شخصي. لكنْ حين يوصيني صديق أثق به أفعل على الدوام. عقلي هذه الأيام متعلق بسيرة الناقد العراقي الرائع عبدالله إبراهيم (أمواج)، لأن سمير - أخي وصديق العمر الأجمل - أوصاني بتقوى الله، ثم بقراءة أمواج. * ما رسالتُك التي توجِّهها لكلِّ من يملك مكتبة خاصَّة؟ * لا تصالحْ! ولو قيل رأس برأسٍ أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟ أحد الدواوين المُهداة للضيف من إصدارات الضيف د. سعيد السريحي عبده خال