السخرية بطلة الحرية هكذا مارك مارتن، وما زالت الحرية تتوسل السخرية والتهكم، كي تقول ما يحظر عليها قوله فتتلاعب باللغة وتصنع المفارقات، وتعد المفارقة تقنية من التقنيات التي تسهم إسهاماً منقطع النظير في تشكيل خصائص النص ومنحه مزيدا من العمق والابتكار والإدهاش. في رواية العصفورية للأديب غازي القصيبي، يحضر الراوي المجنون، الذي يسخر من كل شيء، ويخلق من خلال حديثه المفارقات التي تستدعي فعلاً إعمال العقل، وتطرح سؤالا، من المجنون حقّاً؟ اتخذت رواية العصفورية من مصحة الأمراض النفسية فضاءً للأحداث، بكل ما يوحيه هذا الفضاء من مفارقات ولقاء محتمل بين العقل واللاعقل، فالعصفورية اسم تلك المصحة التي توجد في لبنان، حيث تحدث المفارقة في ثنايا الحوار الذي يجمع بين نزيل المصحة والممرض شفيق، كي يروي له كل شيء، عبر ذاكرة تستحضر الماضي، بتفاصيله الدقيقة وأحداثه المثيرة، يقول بشار الغول البروفيسور المجنون في مستهل الرواية: «أنا لست مريضًا. أنا، يا مولانا، لم أجئ هنا للعلاج. أتيت للحديث، وأنت تتقاضى مئة دولار في الدقيقة، في الدقيقة لا في الساعة يا دكتور، مقابل الإنصات إلي، لا تقل مرة ثانية لا تصريحًا ولا تلميحًا إني مريض هنا». إن اختيار الكاتب القصيبي للجنون، من أجل حرية البوح والتعبير، إجراء تجريبي يبدو ملائماً للرواية ما بعد الحداثة، حيث يُساعد هذا الاختيار على البوح دون التقيد بمنطق معين في الترتيب الزمني، أو تتابع الأحداث وتسلسلها، إذ نلحظ تداخل الحكايات، وعدم اكتمالها، ثم العودة إليها أحياناً، وتشابهها أيضاً، حيث يتعرّف البروفيسور في كل مرة على فتاة يرى فيها الحرية، لكنه سرعان ما يكتشف خيانتها، فهي على الأغلب جاسوسة لدولة خارجية ويكون مصيرها الموت، ليدخل المصحة على إثر اتهامه بالتسبب في موتها أو انتحارها، فالبروفيسور يدخل المصحة العقلية بعد تجربة حب فاشلة، ويبدو أن هذا الجمع بين الحب والجنون ليس جديداً في الأدب والإبداع، ففي التراث العربي قصص العشاق المجانين. وفي كل مرة يدخل مصحة الأمراض النفسية يتم انتهاك خصوصيته، وتدمير عقله عوض علاجه أو التخفيف عنه، وبذلك يؤدي المستشفى دوراً معاكساً، وهذه المفارقات هي التي خلقت البعد الميتاسردي في هذه الرواية. وبأسلوب ساخر، يمتزج فيه الضحك بالألم، تعبر الرواية عن الواقع العربي، خاصة التأخر المؤسسي، الذي يعود حسب الرواية إلى البيروقراطية والرشوة والمحسوبية، يقول للدكتور:»...اعلم، يا دكتور، أن البيروقراطية تقتل خصمها عن أحد طريقين. إما إغراقه في التفاصيل إغراقًا تامًا، وإما حجب التفاصيل عنه كلية...». ويستمر سارد الرواية في كشف المسكوت عنه، في المؤسسات العربية، بلغة تمزج الجد بالهزل، مشبعة بروح الجاحظ، صاحب الأسلوب الساخر، من العادات والتقاليد السيئة، التي سادت في عصره، فكان يتخذ أسلوب الفكاهة والمرح في رصدها والتعليق عليها، ونقدها، كما تجلى في كتبه «البخلاء، الحيوان، البيان والتبيين، رسالة التربيع والتدوير.. وغيرها»؛ فيقول البروفيسور للدكتور: «الرشاوى! الرشاوى، قتلتني. الذي يريد توظيف ابن خالته يحضر لي دجاجة رشوة. والذي يريد أن يصبح سفيرًا يحضر لي سجادة رشوة.. والذي يريد تعيين جميع أقاربه يحضر لي ثلاجة رشوة، هلكت يا دكتور! امتلأ المخزن الأول بالدجاج. تحول إلى مزرعة دجاج فيها مليون دجاجة وديك واحد. لا بد أن الديك هلك بدوره.. «. ويبدو أن عتبة الرواية «عصفورية» تشير بطريقة ضمنية إلى أن الوطن العربي قد صار عصفورية كبيرة، تحفل بالاضطرابات النفسية والأوجاع الروحية، بسبب الانقسام السياسي والتفاوت الاجتماعي بين مكونات المجتمع، فكان اهتمام الكاتب القصيبي بالقومية العربية بارزاً بوصفهاً حلاً لهذا التشرذم والانقسام الذي يعرفه العالم العربي، يقول السارد: «حقيقة الأمر، أني في تلك الفترة كنت مهتمًا بالهدفين القوميين أكثر من اهتمامي بالهدف الشخصي. قررت استخدام الأسلوب العلمي في تحقيق نهضة العرب ...». فالعلم وسيلة لتحقيق نهضة العرب، وهو ما توفر في جيل السارد، الذي تعلم في أمريكا، وامتلك ثقافة موسوعية، «كنت أقول لهم-لأصدقائه العرب- لا تنقص العرب إلا الفرصة. وسوف تتوفر الفرصة عندما نعود نحن ونتولى قيادة السفينة...». ويقول في موضع آخر: «تستطيع أن تختصر الحضارة الأمريكية، إذا كان بالإمكان أن تسميها حضارة، في كلمتين: السعادة العنيفة. أو العنف السعيد...». حيث يعبر عن السعادة مقترنة بالعنف، ويبدو أيضاً أن السارد يمتلك خبرة واسعة بطبائع الشعوب والبلدان، فيتحدث كذلك عن حياة اليابانيين: «... موضوعنا أن اليابانيين لا يدعونك إلى منازلهم. ولكن إلى مطاعم فاخرة جدًا. وعريقة جدًا. وطبقية جدًا. وغالية جدًا... كما أن اليابانيين يدعونك إلى محلات الجيشا. وهي تختلف اختلافًا جذريًا عما تراه في الأفلام. المحلات محتشمة وهادئة. والجيشا الحقيقية تختلف عن جيشا الأفلام. الجيشا الحقيقية يندر أن تكون تحت الأربعين ويستحيل أن تكون جميلة. وهي موسوعة بشرية في الأدب والتاريخ والموسيقى والغناء والفلسفة...». وإذا كان هدف السخرية عموماً يكمن في بلاغة الإمتاع، فإن السخرية في رواية العصفورية تستهدف إيقاظ العقل، ودفع الإنسان العربي إلى إعادة النظر في كثير من مواقفه وآرائه، ومن ذلك مثلاً «عقدة الخواجة» التي جعلت الإنسان العربي مصاب بها ويطمح إلى تحويل الوطن العربي والإسلامي إلى قطعة من أوروبا، يقول: «الحقيقة أني أخشى أنه لم تبق في أوروبا قطع، وزّعوها على أصحاب عقدة الخواجة.. لا عجب إذا أصبحت بعض مناطق أوروبا الآن في مستوى عربستان من حيث النظافة والخدمات». وينتقد أيضاً الكرم العربي ويسخر من مدّعيه، يقول: «جامعة ستانفورد بنيت بتبرع من ثري أمريكي، ونحن العرب نعتقد أننا أكرم الناس»، ويعقد مقارنة بين كرم العرب وبخل الأجانب بلغة تشتعل بالسخرية المرة، قائلا: «يحدثونك عن كرم العرب وبخل الأجانب، هذا والله ما حدث، أشعلت، لسوزي السيجارة فاشترت لي أطعمة بأكثر من 300 دولار، كرم على الطريقة البدوية، فيه شيء من التبذير، وشيء من السفاهة». والملاحظ أن المفارقات لا تنتهي في هذه الرواية، فالبطل البروفيسور على الرغم من حالة فقدان الذاكرة الجزئي، فهو مع ذلك يتذكر عديدا من الأحداث والتفاصيل، وأيضاً يحاول الظهور في صورة العاقل المتهم بالجنون، وأنه ليس مريضاً، يقول: «أنا لست مريضاً، أنا ضيف، وثانياً، لم يحدث في تاريخ العصفورية أن زارها إنسان مثلي، أنا لست إنساناً عاديا»، إنه الإحساس المفرط بالنرجسية والشعور بالتفوق حتى في أصعب الظروف وأسوأ المواقف. ومثل هذه الشخصية تتسم بالشعور غير العادي بالعظمة وحب الذات وتأكيدها المتضخم، وأنه شخص نادر الوجود. وإلى جانب هذا الثراء المعرفي المتعدد الذي يظهر في الرواية، من خلال كلام السارد، أو البروفيسور بطل الرواية، يمتزج الحقيقي بالعجائبي والمتخيل والأسطوري، ومن أمثلة ذلك أن البروفيسور قد تزوج من زوجتين، أحدهما فضائية تظهر على هيئة فراشة، والأخرى جنية اسمها دفاية، وقد أصبحا حاملًا: «اسمع يا نطاسي! دفاية الآن، حامل. والفراشة حامل. ذات يوم، سيطلع لك من الأرض ابني نصف الجني ويسألك عن تاريخ أبيه. وسيهبط عليك من فوق ابني نصف الفضائي ليعرف أسرار أبيه. وكل شيء الآن في عهدتك. سيسلمك المستشفى كل أفلام الفيديو. كل كلمة قلتها لك مصورة ومسجلة. احذر أن يضيع شيء...». لذا يبكي الدكتور سمير ثابت، على ضياع البروفيسور، بعلمه الواسع وخبراته الكبيرة، «يجلس الدكتور سمير ثابت على أرض الممر منخرطًا في ضحك عميق سرعان ما يتحول إلى بكاء عميق يردد خلاله: ضيعانك، يا بروفيسور! والله ضيعانك! ضيعانك!». إن تأثر الطبيب بضياع البروفيسور، يجعله على مشارف الولوج نحو عالم جديد، فإذا كان علاج المجنون ممكناً بوسائل الطب وتقنياته، فإن ذلك لا يتحقق في الرواية، لأن المريض أصلاً لم يعترف بمرضه، ولأن الجنون كان مجرد قناع للبوح الحر والآمن من أي عتاب أو مسؤولية، وحيث إن المفارقات هي الوجه الأبرز في هذه الرواية فإن الجنون سيصيب الطبيب النفسي، وكأن الإنسان عندما يفهم واقعه، فهماً عميقاً، فهو يدخل في دائرة الجنون، لأنه يصبح مختلفاً عن عقلية القطيع، مفارقاً للسائد من الأفكار التقليدية. لقد كان الراوي المجنون مقنِعاً للقارئ على الرغم من جنونه الظاهر، وعقله المستتر، وبذلك أدى الجنون وظيفة ميتاسردية، كما أدى وظيفة حجاجية.