في مناقشة لمحاضرتي التي ألقيتها في نادي جدة الثقافي ضمن ملتقى قراءة النص التاسع بنعوان «الرواية في الجزيرة العربية» الذي عقد بين 24 - 26 مارس 2009م توهم الناقد معجب الزهراني في مقالته بجريدة الرياض 9 أبريل أنه صاحب الكلمة الفصل في كل ما له صلة برواية «العصفورية» لغازي القصيبي، فلا يجوز لأحد أن يقدم قراءة مغايرة، وإذا ما جرؤ سواه على ذلك، فليزم أن تكون قراءته قاصرة، ذلك أنه عرض لثلاثة أنواع من القراءات، هي: القراءة المتكافئة، والقراءة المتجاوزة، والقراءة القاصرة، وأدرجني في الأخيرة، حينما أكد بأن القصيبي قد تلاعب بناقد «من أهم الباحثين في مجال السرديات العربية» بل إنه نقب في ثنايا الرواية فعثر على بغيته، حيث ذكر بأن المؤلف قد شنع بحق نقاد يقدمون قراءات قاصرة «تحاول تفهم النص فينغلق عليها أو يمكر بها فلا تقول شيئاً جدياً، وإن ثرثرت كثيراً في بعض القضايا الشكلية والدلالات الجزئية». ثم وصف الزهراني بحثي الذي لم يطلع عليه إلى هذه اللحظة، إنما أصغى إلى نبذ منه في سياق ندوة محدودة الوقت، بأن صاحبه دخل عصفورية القصيبي «ولم يخرج منها بطائل» ويعود ذلك إلى عدم «كفاية الجهد الذي بُذل للحوار مع نص ملتبس ماكر بكل المعاني». وانتهى بأن لجأ إلى ما لا يحمد في سياق أي جدل معرفي، حينما أنطق نفسه بصوت سائر المنتدين في الملتقى، فقال بأن «سقف التوقع كان عالياً لكن خيبة الظن كانت بانتظار الجميع» إذ تخيل مشاطرة الآخرين له فيما يرى، فجعلهم دريئة للدفاع عن موقفه. والحال هذه فقد انزلق الناقد إلى أحكام متعجلة ينبغي أن يترفع عنها الجدل النقدي، ولن أنجر إليها، بل لا يجوز أن أدافع عن قراءتي لرواية «العصفورية» ولا عن أي شيء كتبته إن لم يكن قادراً هو عن الإفصاح عن نفسه، فرواية العصفورية نص مركب فيه كثير من الإمكانات السردية التي تتيح للناقد أن يقاربه حسب الرؤية والمنهج اللذين يأخذ بهما، ويسرني أن أقدم لقراء «الرياض» ما كتبته عنها، غير متعثر بما قوّلني به الزهراني من تقوّلات لا علاقة لها بما كتبت، فما الذي يتوقعه قارئ من رواية تدور أحداثها كلها في جلسة علاج تستمر عشرين ساعة في مصحة عقلية متخيلة، يكون فيها الطبيب المعالج مستمعاً، والمريض هو المتحدث؟ في كل الآداب السردية يتحدث رواة عاقلون إلا ما ندر. لم يأخذ أي روائي في حسابه أنه مقروء من مجانين. لا يقرأ المجانين الروايات، إنما يقرأون العالم بطريقتهم الخاصة. إذن حيثما بحثنا، وتحرّينا، فمن الصعب العثور على نماذج ندلل بها على هؤلاء الكتاب والرواة الذين يشهرون جنونهم، ويتباهون به إلا ما ندر. أقصى ما يطمح إليه قارئ هو أن يعثر على شخصية ثانوية مجنونة تظهر في فضاء السرد لتبرهن على قيمة الشخصيات العاقلة، وأهميتها. هذه قاعدة سردية ذهبية جرى الأخذ بها دونما تدقيق، حتى دون كيخوته، لم يكن مخبولاً. في الواقع كان العاقل الوحيد في عالم استبد به ضيق الخيال، والتحيزات السطحية، فبدا شبه مجنون، وكان متشبعاً بقيم أخلاقية كبرى أراد تطبيقها في عصر انحطت فيه المروءة، والشهامة، والنجدة، والشجاعة، والصدق، فظهر شاذاً بين قطيع من الأنانيين، والجبناء. شُغل عازي القصيبي بهذا الموضوع، فتلبسه، وتمكن منه، فكيف يقول قولته دونما شبهة، ويبدي رأيه دونما تعريض مقصود؟ بحث طويلاً، وابتكر حلاً اختلق شخصية اتفق العموم والخصوص على أنها رمز العقل والدراية، ومنحها شهادات علمية، وخبرات كبيرة، وأطلق عليها تسمية «البروفسور». وحينما يطرق سمعنا هذا اللقب، العلمي الرفيع نشنف آذاننا متوقعين أنه سيزودنا بنوادر الأفكار، وفرائد الآراء. يحرص كثيرون من حملة الشهادات العليا، والدرجات العلمية المتقدمة، على هذا اللقب، فيكتبونه قبل أسمائهم، ويستشيطون غضباً لو خوطبوا بدونه، والمؤلف نفسه يحمل شهادة عليا تؤهله أن يكون «بروفسوراً» إن لم يكن بالفعل. بلقب «بروفسور» تتوفر حماية كاملة للشخصيات ممن هم دونهم. أي من أولئك المتطفلين، النزقين، الذين يترفع عنهم (البروفسور) بمقامه وعلمه ودوره. ولكن ماذا نتوقع حينما تنقلب الأدوار ويكون هذا (البرفسور) هاذياً، مخلطاً. ويكون القراء هم العقلاء؟ تنبثق مفارقة سردية كبيرة. تلك هي الحافزية السردية لرواية «العصفورية». يدعي العرب أنهم سادة العقل، وترادف كلمة مجنون، في الثقافة العربية، ألفاظ السب، والشتم، والانتقاص، حينما تطلق على شخص، فكيف يمكن الحديث من طرف مجنون عن تاريخ غريب من نوعه بين تواريخ الأمم لقوم يظنون، ظن الجاهلية، أنهم مستودع العقل الكوني؟ يقترح القصيبي أن يُجرى هذا الحديث في مصحة عقلية متخيلة يتولاه «بروفسور» يهذر به لعشرين ساعة متواصلة. والحال هذه، فرواية «العصفورية» قادتنا إلى دهاليز هذه الفكرة الغريبة، فهذا مكان لا صلة له بالجنون، إنه المكان الذي ينشط فيه العقل، ويتحرر من الكوابح الموجودة في خارجه. وللحديث عن العالم العربي، فلا أفضل من أن يلوذ المتحدث بمصحة عقلية، ليدرأ عنه أية تهمة، ويتخطى الحدود الحمراء دونما خوف. فهذا هو المكان الذي تتوفر فيه شروط القول الصادق عن عالم خربته الأكاذيب، وهذا هو المكان الذي يصون حرية كل من يروم الحديث عن «المجانين الحقيقيين» في خارجه!!!. لن يلقى القبض على عاقل في «مصحة عقلية» ويتهم بالخبل. يلقى القبض عليه حينما يكون خارج ذلك المكان، لم يبعد عاقل أبداً عن مكان خاص بالمجانين، ولهذا فمن المباح للبروفسور أن يختار «مصحة عقلية» فيقدم لنا روايته عن تاريخ أمنه بمنأى من الخوف. وبانعدام المخاوف، وتخطي حدود التوجس، يصبح من المتاح النظر بما تحتويه ذاكرة «البروفسور» عن أمته، با للعجب العجاب من خزين ذاكرة تفتحت خارج منطقة الخوف، لتعيد رواية خليط مذهل من الأحداث المتقاطعة والمتداخلة من التاريخ المعاصر على خلفية ساخرة تدمج النادرة بالطرفة، والفكاهة بالمفارقة، والمأساة بالملهاة، وتتخلل ذلك انتقادات مرة، وأحكام نقدية، فيظل النص لصيقاً من هذه الناحية بمرجعياته التاريخية، لكن الحكاية بأجمعها تترتب في إطار تخيلي ينتهي باختفاء «البروفسور» إما في «عالم الجن» أو «عالم الفضاء» تاركاً «العصفورية» مكاناً لطبيبه المعالج الدكتور سمير ثابت الذي أدرك، بعد فوات الأوان، أن مريضه هو العاقل الوحيد في كل ما تحدث به. وتنتهي الرواية بتبادل الأدوار. يصاب الطبيب المعالج بالجنون بعد سماع حكاية مريضه، ويتلاشى وجود البروفسور في عالم غير مرئي. ولكن ماذا نتوقع من هذر ساخر تقدمه ذاكرة مملوءة بالأحداث لعشرين ساعة دونما انقطاع؟ هل يوجد عاقل واحد لديه القدرة، والصبر، والمطاولة، كي يواظب طوال هذه المدة في الاستماع لحديث غير مترابط، يخترق حدود الأزمنة والأمكنة؟ العصفورية نص سردي يمزج إحالات تاريخية، واجتماعية، وسياسية، وثقافية معروفة، يصر «البروفسور» على روايتها بتفاصيلها، ولم يغب على أي قارئ أنه قناع المؤلف، وذلك أمر لا يحتاج إلى برهان يثبته، لأنه هو البرهان بعينه. ولم يكتفِ الراوي بخليط الوقائع إنما استخدم لغات ولهجات كثيرة، فظهر تجاور لفظي متكرر للعربية والإنجليزية، ثم الفرنسية، والإسبانية، والألمانية، والعبرية، وتداخلت اللهجات اللبنانية، والمصرية، والسورية، والخليجية، والعراقية، والتونسية، أشبه بأمواج ساخرة في الداعيات الحوارية. وقد نقض النص القواعد السردية الشائعة، وبدل أن يمتثل لعناصر محددة، قام بابتكار عناصره، فالشخصيات تستدعي عبر ذاكرة البروفسور بوصفها جزءاً من تجاربه وهو يتنقل بين قارات العالم، ثم يتوارى في النهاية. وعلى هذا فهو ينظم سلسلة حكايات يتولد بعضها عن بعض، وتتكاثر على نحو مثير للإعجاب، فيختار منها ما يريد، ويترك معظمها عالقة في سياق السرد، ملاحقاً باصرار عجيب محاور معينة من الواقع للكشف عن طبيعة حسه الساخر. وتظهر شخصية الشاعر أبي الطيب المتنبي الذي يعاد تشكيل دوره مجدداً، بما في ذلك إعادة ترتيب قصائده، لتنوب عن الراوي في التعبير عما يريد التعبير عنه. ظهر تناغم فريد بين البروفسور والشاعر في احتجاجهما على الأوضاع المحيطة بهما، فيصبح التناقد فيما بينهما حراً إلى درجة يظهر وكأن كلا منهما يتوارى خلف الآخر، ويُنطقه بما يريد، وكما هي حال المتنبي في تموجاته الاحتجاجية الغاضبة، وتطلعاته، وتقلباته، وارتحالاته، وهيجانه الشاعري المتدفق المشحون برنين إيقاعي متأجج، فإن البروفسور يطفح غضباً وهيجاناً، وهو يعيد رواية التاريخ السري لتجربته بين الجامعات، والمصحات العقلية، والوزارات، والمنتجعات، وبين البلدان، والقارات، ليسلط ضوءاً كاشفاً على خفايا الواقع الذي عاش فيه وأسراره، فاختلط صوته بصوت المتنبي، فكلاهما عاصر أحداثاً تقلبت فيها المصائر على نحو غير معقول. وبانفتاح الرواية على مرجعياتها التاريخية بصراحة ووضوح، فقد خربت ميثاق السرد التقليدي الذي يُغلب الظن بتخيلية الأحداث، وعدم صدقها، وباختراق النص لهذا الحاجز، تحرر من أي قيود أخرى، سواء في البناء، أو الأسلوب، أو اللغة، فجرى تنضيد الوقائع التاريخية، والقصائد، والأخبار، بجانب الوقائع المتخيلة، فانعكست هذه في مرايا تلك، دون أن تتخلى عن وظائفها الدلالية. وفي الوقت الذي تشظت فيه الوقائع، وتناثرت، لجأ الراوي لكثرتها إلى الحذف والاستبدال ثم الانتقال إلى غيرها، فقد كانت تعيد تنظيم نفسها لدى المتلقي، الذي تابع المكونات الأساسية لتجربة الراوي، وهي تتجمع من موارد عدة، وذلك قبل أن تكون مجرى واضحاً يقوم على إحساس عميق بالحزن تجاه العالم الذي يعيش فيه، وعجزه عن مقاومة الانهيارات الحاصلة فيه. ولتأكيد كل ذلك لجأت الرواية إلى الاعتماد على المفارقة، فأظهرت الشخصيات غير ما تبطن، وانتهت على غير ما بدأت، وعاش الرواي حالة دهشة متواصلة وهو يراقب التقلبات في كل شيء، فعجز عن تفسير ذلك، إذ كل شيء يبدو مكوماً بفوضى وعبث كبيرين، ولمقاومة ثقل الأحداث، ومساراتها المتشعبة، ونهاياتها التراجيدية، كشف النص عن منظور هجائي للراوي، واجه به كل ذلك، وحوله في تيار وعيه إلى مواقف هزلية تضمنت في الغالب، بعدين: يتصل أحدهما بظاهر الأحداث، وهو الفكاهة والسخرية، ويتصل الآخر بباطنها المأساوي، وأحياناً تنقلب هذه المظاهر وتتبادل الأدوار، وتتداخل فيما بينها، فالحبيبة جاسوسة، والثائر عميل، والحلم كابوس، والأمنية لعنة، وفي كل هذا لا يمكن انتظار نهايات محددة، فالأسباب تقود إلى نتائج غير متوقعة، وتتعارض أصلاً مع طبيعة الأسباب الموضوعة لها. العصفورية هي المكان الوحيد في هذا العالم الذي يوجد فيه عقلاء حقيقيون، فهبوا إليها أفواجاً أيها القراء. وأنت يا معجب الزهراني.