إن كنت قارئا شغوفا بما تحمله الكتب من حكايات إنسانية تخترق القلب وتشطره نصفين فيجب ألا يفوتك قراءة رواية "جسر على نهر درينا" لكاتبها اليوغوسلافي إيفو أندريتش (نال جائزة نوبل 1961 وهي الوحيدة لصربيا)، صدرت أول مرة العام 1945، وفيها لا يكتفي الكاتب باستنطاق التاريخ، بل يذهب بعيدا بروايته تلك، حين يبني تاريخا جديدا لمعالم المكان وتاريخه الإنساني، دون قصد منه لأن يحوّله إلى مكان سياحي يقصده عشاق الأدب، والتاريخ، والتحف المعمارية العظيمة. لا شك أن الأدب عجيب، فهو يجمع خيوط الحقيقة المنسية، ليذكّرنا أن الواقع أكثر إدهاشا من المخيلة، حتى وإن سبقت هذه المخيلة الواقع برؤية المستقبل. إذ لطالما أخرج الأدباء تفاصيل ميتة من كتب التاريخ وأعادوا بناءها روائيا فمنحوها حياة أبدية. علينا هنا أن نُذكِّر أن الأدب يفقد معناه ويصبح تكلّفا إذا ما امتطاه صاحبه لأجل أهداف أخرى، مثل الشهرة، والمكانة الاجتماعية المرموقة أو التكسب بالتقرّب من الحكّام والأثرياء مثل شعراء البلاط أيام زمان. ملخص الرواية يقول إن صبيا لعائلة مسيحية اختطف من قبل الجنود العثمانيين من إحدى ضواحي بلغراد كجزء من ضريبة الجزية، وهو واحد من أطفال المسيحيين الذين تعرّضوا لنفس المصير. لحقت الأم بالخاطفين إلى أن بلغت نهر درينا، فتوقفت مشيعة ابنها الباكي بالدموع وقد حُمل في عبارة ومضت به إلى الضفة الأخرى. تم تغيير اسم الصبي إلى محمد كما تم تدريبه كعسكري في الجيش الانكشاري العثماني، وصار يرتقي على سلّم الرتب حتى أصبح وزيرا في عمر الستين، فبنى الجسر من النقطة التي ودّع فيها أمه ذات يوم ليصل الضفتين ببعضهما بعضا. كان ذلك الوزير الأعظم محمد باشا سوكولوفيتش وقصة طفولته المؤلمة. أمّا مصير الأم فلا نعرفه، وأمّا الجسر فهو هذا الذي يقصده أندريتش والمعروف باسم جسر محمد باشا سوكولوفيتش. تاريخيا انتهى بناؤه العام 1577 في فيشيغراد (البوسنة والهرسك) وقد أشرف عليه أشهر مهندس معماري في ذلك الوقت سنان الدين يوسف بن عبدالمنان والذي عاش المصير نفسه بعد اختطافه في طفولته. عاطفيا إذن هو الجسر الذي لو كان موجودا لتمكنت الأم من اللحاق بابنها ربما، فعقل الطفل لم يتخلّ أبدا عن أمنيته، ولو بعد نصف قرن من البعاد. أدرج الجسر ضمن لائحة التراث الإنساني العالمي من طرف منظّمة اليونسكو العام 2007. وهو في الحقيقة أعظم من أي جسر آخر في العالم، إذ أتخيل أن حديثا سقط من كتب التاريخ، جمع الوزير الأعظم محمد باشا والمعماري سنان عن تلك اللحظة المؤلمة التي عاشاها معا حين ابتعدت بهما العبّارة إلى الضفة الأخرى في وداع لا يمكن للغة أن تصفه، أمهات انقطعت أنفاسهن من العويل وأطفال يبكون ودموع اختلطت بمياه النهر إلى الأبد.