من موقعها الجغرافي اكتسبت البوسنة صورتيها وسمعتيها: كونها ملتقى ثقافات وأديان، وكونها مسرحاً لصراعات دول وجماعات، وثقافات وأديان أيضاً. البوسنة، جغرافياً، تحيط بها كرواتيا من الشمال والجنوب والجنوب الغربي، ومن ورائها النمسا وسائر أوروبا، فيما تحيط بها صربيا من الشرق وصربيو الجبل الأسود مونتينيغرو من الجنوب الشرقي، ومن وراء الصرب البلغار والرومانيون فالروس شمالاً والأتراك جنوباً. التعايش، وأحياناً التسامح، من سمات تاريخ البوسنة. الصراع كذلك. التبسيط هو أن يُرى أحدهما من دون الثاني. المسلمون والمسيحيون، الارثوذكس والكاثوليك، وكذلك اليهود السفرديون الذين فروا من اسبانيا القرن السادس عشر ولجأوا إلى المدينة، كلهم عاشوا وعملوا هناك. الأبنية والمراكز الدينية والمعاهد الثقافية لا تزال شاهدة على ذلك: على العيش معاً وعلى النزاع بين مكونات هذا العيش المشترك. البوسنة، وتبعاً للموقع، كانت دائماً هكذا. الموقع لعب بالنسبة إليها ما لم يلعبه في بلدان أخرى. في القرون الوسطى، وتحديداً في 960، انشقت عن مملكة صربيا واستقلت جزئياً من دون أن تنفصل عن تشريعات العالمين المسيحيين المحيطين: اللاتيني الغربي والارثوذكسي الشرقي. في القرن الثاني عشر حاول حاكم البوسنة أن يستقل بالكامل فأشاع ديانة خاصة به متأثرةً بالمانوية الفارسية البعيدة. الكثيرون من البوسنيين تبعوا ديانة حاكمهم التي عدتها المسيحية هرطوقية، واستمر الحال هكذا حتى الفتح العثماني. الإسلام كسب مستفيداً من القطيعة بين المسيحية والبوسنيين الذين انشقوا عنها. الأخيرون اعتنقوه مع أنهم احتفظوا باللغة الصربو - كرواتية. الأتراك دخلوا البوسنة بين 1386 و1463. التحول إلى الإسلام كان متسارعاً لا سيما في أوساط العائلات المالكة للأرض الأكثر شعوراً بالاعتداد حيال الفلاحين الصرب، ومع التحول الديني صارت البوسنة موقعاً ثقافياً من مواقع المسلمين. من القرن الخامس عشر فصاعداً راح البوسنيون يرفدون الجيوش العثمانية ويمدّونها بشبيبتهم. لكن مسيحيين كانوا يؤخذون إلى اسطنبول أيضاً ويُزج صغارهم في الجيش والانكشارية. هذا، فضلاً عن التمايز الديني، أجّج الحقد. أكثر الحاقدين كانوا الصرب الذين أحسوا دائماً بأنهم روح الهوية البلقانية - السلافية التي لم تكن صارت هوية بعد. الأتراك لوّنوا ساراييفو بلونهم. كل ما في المدينة يذكّر بذلك حتى اسمها. لقد أسسوها بصفتها "سراي اوفاسي"، أي حقل السراي، أو مداها. الكلمة ذُكرت للمرة الأولى في الوثائق التركية عام 1507. السلاف تالياً أخذوا الكلمة وضمّوها إلى لغتهم وإلى لفظهم. ساراييفو ما لبثت أن أصبحت قاعدة عسكرية وإدارية تركية، ومن ثم مركزاً وعاصمة للسنجق البوسني. المدينة هذه، الناشئة حديثاً، كانت مركزاً يؤوي الحرفيين الأوائل: حرفيي النسيج، بناة الزوارق الصغرى، مُثقّفي السيف، الحدادين، صانعي صهوات الخيل، الطحّانين، الخبّازين، والطبّاخين في المطابخ التركية العامة والرسمية. هكذا راحت تتشكل الحياة في المدينة تدريجاً من زاويتيها الاقتصادية والثقافية. وجعلت ساراييفو تتطور بوتيرة سريعة في القرن السادس عشر. جسور كثيرة بنيت على نهر ميلجاكا لا تزال قائمة حتى اليوم، تتباهى بجلال الزمن العثماني. عن أول هذه الجسور الذي بني في 1516، سنة مرج دابق في المشرق، كتب إيفو أندريتش روايته الشهيرة "الجسر فوق درينا" الذي نال جائزة نوبل للآداب في 1961 وعُدّ العمل الأدبي الأفضل عن البلقان وتاريخه وشعوبه. أندريتش اتخذ الجسر فوق النهر الذي يفصل بين ما يعرف حالياً بصربيا والبوسنة - الهرسك رمزاً لبُعدي تاريخ البلقان: الاتصال والانفصال. فالجسر الذي بني فوق درينا بناه ابن فلاح مسلم هو محمد سوكولو، المولود سوكولوفيتش، والذي أصبح لاحقاً صدراً أعظم في اسطنبول. وبصفته هذه حكم سوكولو السلطنة حتى وفاته في 1579. لكنه هو الذي انتُزع طفلاً من بيئته المسيحية في ساراييفو، ظل يتذكر مكان مولده ويتذكر أصله. ولأنه أراد مصالحة جديده العثماني والمسلم، مع قديمه البوسني والمسيحي، بنى الجسر. هذا هو الرمزي والروائي. التاريخي أن الجسر يربط العالم العثماني بالعالم البلقاني. الجسر يربط ويصل، نعم، إلا أنه يفصل أيضاً. قنوات الربط تنامت: بات لساراييفو موقع في طريق القوافل التي كانت تصل من البندقية وفيينا ومدن أوروبا الوسطى، كما تصل من المتوسط ومن الشرق فيرتاح تجارها في واحد من الخانات الخمسين للمدينة. وفي القرن السادس عشر غدت لساراييفو صلاتها المنظمة والمنتظمة مع مدن أوروبية أخرى، فضلاً عن تلك الشرقية، وكانت قد أصبحت حاضرة متروبولية. فالأنابيب الخشبية الأولى لنقل المياه شيدت كي تزود ساكنيها وموظفيها وعسكرييها الكثيرين حاجتهم. نوافير الماء، أو الصدرفاني، كانت قد بنيت أيضاً في باحات المساجد وفناءاتها مما لا يزال اثر بعضها قائماً حتى اليوم. الحمامات التركية التي هُندست على منوال الحمامات القديمة رُبطت بدورها بنظام الأنابيب، وعرفت ساراييفو القديمة سبعة حمامات منها. ومع توطد الحكم العثماني هناك ارتفعت مبان جديدة وكثيرة تعددت مصادر بنائها: الايمان ومستلزماته وتزايد السكان ووظائف الإدارة والجيش. هكذا انتصبت المساجد وأماكن العبادة مسدزيدي والمكتبات ومدارسة التعليم الديني وتكايا الصوفيين، وانتصبت أيضاً بيوت للسكن وثكنات للجند. وإلى هذا توسعت الفسحات المتروكة للمدافن نيساني والأضرحة تُربات. أهم مساجد ساراييفو، مسجد غازي هوسرُف بيك، بني في 1531 وسُمي تيمناً باسم بانيه، غازي، حاكم البوسنة يومها. غازي هذا استلجب لبنائه أفضل مهندسي العمارة الأوروبية وكان أحدهم قد هندس أبرز الجوامع الاسطنبولية، كيما يصنعوا له المسجد الأعظم في البوسنة. هذا أضاف التراث البيزنطي إلى التراث الباروكي وعايش مبكراً بينهما. في غضون ذلك ابجديات كثيرة استخدمها السراييفيون أو مرت عليهم: اليونانية واللاتينية، السيريلية والقوطية، العربية والعبرية. ولم يسجل تاريخ المدينة أية أعمال عنف أو اضطهاد، بل كثيراً ما تتردد واقعة تروي عن أهل ساراييفو أنهم توجهوا لتحرير يهود سُجنوا في مدينتهم. وبين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر، شرع التأثير الثقافي، الإسلامي - العثماني، يؤثر على السكن وأنماطه. فالبيوت المتواضعة الشكل التي شيدت في الأراضي الزراعية والخضراء عند أقدام التلال المحيطة بساراييفو، قُصد باختيار موقعها مقابلة الشمس وضوئها. وكانت عاصمة البوسنة بين قلة من مدن أوروبا التي تمتعت بنظام للتزود بالمياه لمدة تزيد عن أربعة قرون. في القرن السابع عشر كتب رحالة تركي اسمه إفليجا سليفيجا عن وجود 110 ينابيع تصلح مياهها للشرب، وفي 1658 ذكر الكاتب الفرنسي كويسليت الذي زار ساراييفو ان فيها 169 ينبوعاً ونافورة ومحطة مائية. ضعف العثمانيين وصعود الأوروبيين والقوميات أخل بهذه المعادلات. التمايزات الدينية غدت عنصراً انفجارياً. ما كان ضامراً وكامناً صار معلناً. الانتفاضات الفلاحية المسيحية بات يمكنها ان تطمع بالحصول على دعم خارجي من دول أوروبا الصاعدة أو القوية: النمسا الكاثوليكية بالنسبة إلى الكروات أو روسيا الارثوذكسية بالنسبة إلى الصرب. في الوقت نفسه، فإن الضغط السكاني المتعاظم والتحديثات الطارئة على الحياة جعلت تمسك الفلاحين بمعاييرهم التقليدية والموروثة أصعب فأصعب: في مطالع القرن التاسع عشر عادت نخبة من المثقفين الذين درسوا في المانيا وتأثروا بقوميتها، بفكرة تقول إن الوطنية واللغة تسيران جنباً إلى جنب، وهما لا تكتملان من دون دولة سيدة ذات حدود. وما دام ان اللغات القائمة لا تقيم فواصل واضحة بين اللهجات السلافية الكثيرة، لم يكن لمثال القومية اللغوية إلا أن يزيد الارتباك في مجتمع منظم أصلاً على الدين. هذه الظروف وفرت الخلفية ل "المسألة الشرقية" التي سممت القرن التاسع عشر. البوسنة كانت نموذجية في ذلك لأنها بالضبط الجسر وهمزة الوصل ومعبَر التقاطع: الصرب ثاروا في 1804. انتفاضتهم التي عرفت بانتفاضة دهيجه قمعت بقسوة بالغة. المسلمون بقيادة ملاكي الأرض ثاروا من موقع آخر ضد العثمانيين واسطنبول. انتفاضاتهم حصلت في 1821 و1828 و1831 و1838 - 1850، لأن السلطنة بدأت تتأثر بالغرب وتميل إلى تحديث خجول لمؤسساتها. اذن ثاروا عليها من موقع محافظ. الفلاحون المسيحيون المعترضون على تزايد الضرائب الذي أملاه التحديث النسبي، ما لبثوا أن اخذوا من المسلمين راية التمرد فثاروا في 1862 و1875 - 1878، ما استدعى تدخل الدول الأوروبية بحيث وضعت البوسنة والهرسك، بموجب مؤتمر برلين في 1878، في عهدة الحماية النمسوية. في 1908 وسّع الهبسبورغيون بيكارهم بضمهما إلى التاج، فنشأت مشكلة سياسية وديبلوماسية ساهمت في الدفع نحو الحرب العالمية الأولى. العهد الهبسبورغي، النمسوي - الهنغاري، وقع كالصدمة على السكان. الروائي إيفو اندريتش وصف تلك الصدمة بالتالي: "ما من أحد يستطيع أن يتذكر صمتاً كالصمت الذي هبط على المدينة، حتى أن الدكاكين لم تُفتح. أبواب البيوت وشبابيكها بقيت موصدة مع أن النهار كان دافئاً ومشمساً في اواخر شهر آب. الشوارع كانت خالية، وبدت الساحات والحدائق كأنها ميتة. لكن الخوف كان في كل مكان وعند كل شخص. النمسويون الداخلون كانوا متخوفين من كمين. الأتراك متخوفين من النمسويين. الصرب متخوفين من النمسويين والأتراك سواء بسواء. واليهود متخوفين من كل شيء وكل شخص، خصوصاً أن أي شخص، لا سيما في أزمنة الحرب، أقوى منهم". على أن السنوات الأربعين للعهد النمسوي - الهنغاري شهدت انطلاق عدد من الأعمال العامة: تنظيف محيط نهر ميلجاكا، بناء أنظمة أخرى للتزود بالماء، إقامة شبكة كهربائية وافتتاح مدارس جديدة ومعاهد علمية على الطراز الأوروبي الحديث. سكان ساراييفو زاد عددهم بصورة ملحوظة، وازدهرت ساراييفو اقتصادياً وثقافياً وسياسياً. الصناعات الحديثة الأولى ظهرت آنذاك: مصنع تبغ في 1880، مصنع لحياكة السجاد في 1888، مصنع لأثاث البيوت وآخر للصابون في 1894، فضلاً عن سكة حديد ومحطات طاقة وصناعات نسيج وغذاء. في الوقت نفسه افتتحت أولى المدارس الثانوية في تاريخ المدينة. استمرت هذه الفورة إلى أن قام القومي الصربي غفريلو برنسيب باغتيال ارشيدوق النمسا ووريث عرشها فرانز فرديناند وزوجته صوفيا في مدينة ساراييفو بالذات: إنه الحدث الذي اعتُبر شرارة الحرب الأولى. بعد 1918 دمجت البوسنة في مملكة يوغوسلافيا، أو سلافيا الجنوبية، التي ضمت صرباً وكرواتاً ومسلمين. الأزمة الاقتصادية التي تميزت بها حقبة ما بين الحربين أثّرت في نمو المدينة، لكن المباني القليلة التي اقيمت استأنفت التأثر بالهندسة الأوروبية في فيينا وبراغ وباريس. في الحرب الثانية عاد التعايش لينفجر. تحولت البوسنة بسبب من طبيعتها الجبلية إلى معقل رئيسي لتيتو وأنصاره. "الاوستاشي" الكرواتية شبه الفاشية والمؤيدة لپ"المحور" ذبحت الصرب واليهود بلا رحمة. "الشِتنيكس" الصربية شبه الفاشية والمؤيدة ل "الحلفاء" ذبحت المسلمين والكروات بلا رحمة أيضاً. لكن بانتصار تيتو و"الأنصار" بعد الحرب، صارت البوسنة إحدى الجمهوريات الست التي يتشكل منها الاتحاد الفيديرالي اليوغوسلافي الجديد. ومع أن تيتو كرواتي - سلوفيني، فإن الصربية كانت روح الجمهورية وقاعدتها، تماماً كما كان حالها مع الملكية اليوغوسلافية من قبل. تطورت ساراييفو بسرعة ونما السكان بالسرعة نفسها، فيما تمددت المدينة لتضم إليها نطاق عشر بلديات محيطة. لم تعد عاصمة البوسنة مركزاً سياسياً واجتماعياً فحسب، بل غدت أيضاً القلب الجامعي والعلمي والثقافي والاقتصادي للبوسنة. هذا النمو تلاه بناء مجمعات سكن مديني جديدة ومعها مصانع ومدارس ومعاهد علمية ووحدات اجتماعية. لكن نمو ساراييفو في العهد الشيوعي، كما في العهود السابقة، ظل يخدم هدفاً محدداً: النزعة الحربية. فساراييفو لا تقع فقط في القلب الجغرافي ليوغوسلافيا السابقة، ولا تشكل همزة وصل حضارية فحسب، انها أيضاً مركز توترات تاريخية متبادلة كانت دائماً تتغذى من بعضها. إنها من مهود الصراع بين المسيحيتين الشرقية والغربية، بين روما والقسطنطينية منذ تمزق النصرانية وانشقاقها في القرن العاشر. ثم من مسارح الاحتكاك العنفي بين الإسلام والمسيحية: تكمّل ساراييفو، بهذا المعنى، ما كانته فلسطين ابان الحروب الصليبية وما كانته اسبانيا/ الأندلس. وهي تالياً نقطة لقاء ونزاع بين اسطنبول وفيينا أو الامبراطوريتين العثمانية والهبسبورغية. ساراييفو الحديثة، بالتالي، ثمرة تلاقح اسطنبول وفيينا انجازاً ونزاعاً. في الحرب الثانية، عاد البلقان كله ليشكل أحد أكثر نقاط العالم اشتعالاً نتيجة صدام أوروبا وأميركا وروسياوالمانيا، وفي محاذاة هذا الصراع كانت فورة الايديولوجيات: الديموقراطية والشيوعية والقومية، وفورة الأديان والاثنيات: الإسلام والصربية والكرواتية. حتى إذا تأسست يوغوسلافيا الفيديرالية بزعامة تيتو ضمت ألواناً كثيرة وتناقضات كثيرة أيضاً. هذه كلها وجدت مُصغَّرها في البوسنة: الصرب الارثوذكس شكلوا 31 في المئة من سكان الجمهورية التي تعد الآن أربعة ملايين نسمة وربع المليون. وهم أساساً ريفيون وجبليون يتوزعون على المناطق الحدودية للبلد في الشمال والجنوب والشرق. المسلمون، وهم 44 في المئة، عاشوا في المدن الصناعية، فيما توزع الكروات الكاثوليك، وهم 17 في المئة، على الهرسك الغربي، أي الجنوب الغربي من الجمهورية الواقع في محاذاة الساحل الدلماسي الكرواتي، واقيلم بوسافينا الشمالي. ريفية الصرب ومدينية المسلمين قدّمت الأخيرين للعالم مدافعين عن الكوزموبوليتية، والأولين عن القومية. قبل حرب التسعينات هذه كانت البوسنة تسمى سويسرا البلقان، لأن اللقاء كان خادعاً يوحي، كما أوحى في لبنان، بجوانبه الايجابية وحدها. والحال أنه ما من مدينة، بما في ذلك اسطنبول، التقى الشرق والغرب فيها لقاءهما في ساراييفو. لكن هذا اللقاء سبب تمزيق أيضاً، كما رأينا في بيروت. وراء ذلك لا يقف الشرق والغرب وحدهما، بل يقف أيضاً تفاعل نزاعهما مع تراكيب الداخل ونزاعاته. فلزمن ينوف عن ثلاثة قرون عملت الإدارات الملكية لاسطنبول وفيينا التي رأينا بعض منجزاتها الكبيرة، على تأسيس بعض الكوارث. لقد أنشأت وبنت من دون انقطاع أنظمة دفاعية موسعة ومعقدة في المنطقة، منطقة البلقان. فلاحو تلك المقاطعات لم تشجعهم السلطات على زراعة أرضهم، وهو ما أدى تراكمه التاريخي إلى انخفاض مستويات المعيشة هناك قياساً بجواره. كانت تهبهم المشاريع التي سبقت الإشارة إليها لكي تعززهم كقلاع حدودية صامدة. لقد تمت تربية سكان البوسنة كمقاتلين، وبانتظام كانت النداءات تُوجه إليهم كيما يدافعوا عن أرض أو دين أو قومية، أو كي يغزوا ويوسعوا نطاق أرض ودين وقومية. حدوديتهم في هذا المعنى كانت عبئاً عليهم. التكوين الحربي والبعد الاستراتيجي في الامبراطوريتين العثمانية والهبسبورغية انضافا إلى حدودية هذه الجماعات: الصرب صاروا يقدمون أنفسهم ضمير الفكرة اليوغوسلافية التي تريد التصدي للكاثوليك النمسويين والمسلمين العثمانيين حفاظاً على نقاء مزعوم للعالم السلافي. الكروات صاروا ضمير الالتحام بالغرب المتقدم الذي يشكل حضوره شرط صيانة عالمهم وإدامة تماسكه في وجه الشرقين: الروسي الارثوذكسي والعثماني المسلم. والمسلمون صاروا ضمير الإسلام كينونةً وصيرورةً حيال غرب يساوره القلق من جراء وفادة الدين والتقليد غير المسيحيين. في وقت لاحق حينما تفاقم نزاع ستالين وتيتو، وطرد الاتحاد السوفياتي يوغوسلافيا من الكومنفورم في حزيران يونيو 1948، رد الماريشال اليوغوسلافي بتعزيز دفاعاته العسكرية في البوسنة. لقد اعتقد أن موقعها الجغرافي في قلب يوغوسلافيا، وطبيعتها الجبلية التي خبرها في الحرب الثانية، سوف يخلقان عراقيل جدية في وجه أي جيش مهاجم. ولأن تيتو، صاحب "الحياد الايجابي"، لم يستبعد مهاجمة بلاده من الشرق السوفياتي كما من الغرب الرأسمالي، حوّل البوسنة قلعة تستطيع الصمود حتى لو سقطت زغرب وبلغراد وسكوبيا تباعاً. ومع أن البوسنة والهرسك لا يشكلان أكثر من خُمس مساحة يوغوسلافيا، فإن 60 في المئة من الصناعات والمعدات العسكرية للبلد جُمّعت هناك. في ساراييفو ينتابك أن ملاييناً نسيت آلافاً منها، ان الأعداد الضخمة للإسلام وللمسيحية، في بلغراد أو في زغرب، في اسطنبول أو في فيينا، قد تركت عمداً أعداداً متواضعة كي تتقاتل أو تتصدى. وفي النهاية تحتار حقاً: أيهما أقوى: النفع المترتب على بناء الجسر، أم الشر الذي فينا بحيث نعبره لكي نذبح؟ * كاتب ومعلق لبناني