أَستأْذن اليوم صديقي "الأَديب الشاب"، فأَقطع عنه في هذا العدد الحلقة 11 من سلسلة رسائلي إِليه، كي أُجيب القارئ أَحمد م. عُليَّان الذي كتب إِليَّ رسالة إِلكترونية أَقتطِع منها الآتي: "الأُستاذ الشاعر هنري زغيب، تحية وبعد، أُتابع في صحيفة "الرياض" كلَّ خميس سلسلتَك "رسائل إِلى أَديب شاب". ويدور في بالي سؤَال عن موقفك الصارم من فصل الشعر عن النثر وإِصرارك أَن لا تلاقٍ بينهما. أَفلستَ ترى أَبدًا شعرًا خارج الوزن والتقفية"؟ سأُجيب الأُستاذ أَحمد ببعض ما كنتُ عالجتُهُ في هذا الموضوع: لم أَجزُم يومًا أَنَّ الوزن التقليديَّ الخليليّ ضروريٌ في الشعر، فإِنما الضروريُّ هو ملامسة المَشَاعر بالشعر، الوزنُ للشاعر، كالنوتة للموسيقيّ، كاللون للرسام، كالخشبة للمسرحيّ، كالكاميرا للسينمائي، وبراعةُ المبدع أَن يقدِّمَ اللحنَ الجميل ويُنْسينا النوتات التقليدية التي يتأَلف منها، واللوحةَ الجميلة ويُنْسينا الخطوط التي تتركّب منها، والمسرحيةَ الجميلة ويُنْسينا الخشبةَ التي تتأطَّر ضمنها، والفيلمَ الجميلَ ويُنْسينا الكاميرا التي دخل من عينها، بمعنى آخر: أَن يَنسُج المبدع إِبداعه بتقْنيته البارعة، هكذا براعةُ الشاعر المبدع: أَن يأْتينا بقصيدة جَميلةٍ ويُنْسينا تفعيلات عروضية تتراصف الأَبيات بها، من هنا أَنّ الوزنَ فخٌّ خطير يقعُ فيه المتلطّي خلفه ليَدَّعي شِعرًا بينما هو لا يأْتِي سوى بنَظْمٍ بارد، ويهربُ منه غيْرُ المتمكّن منه مدَّعيًا أَنه شاعر "حديث" غيْر تقليديّ بينما هو لا يأْتِي سوى بِهَذَرٍ أَجوف، ويَجتازه الشاعر المتمكّن من لعبة الأُصول، أَي ابنُ الأَصالة الشعرية التي ليست في حاجةٍ إلى نبرةِ الوزن الخطابية، ولا إِلى غنائية القافية في آخر كلّ بيت، ولا إلى حشوِ كلماتٍ وسيطةٍ كي يستقيَم له الوزن. الأَصالة الشعرية لا يمكن أَن تكون بنتَ ساعتها، وإِذا التفعيلةُ في عصرنا صارت "قديَمة"، فالتجديد لا يكون ابن الارتِجال، مع مرور الوقت قد تولدُ أَوزانٌ جديدةٌ وبُحور مُختلفةٌ تُثْبت قواعِدَها فتصبح نَهجًا. الفيلسوف الأَلماني هيغل، وهو لم يكتب بيتَ شعر واحدًا، يَجزم أَن الشعر "أَكملُ الفنون": فهو يُخاطب العين بِهيكليّته الشعرية الأَنيقة حين يُقرَأُ بالنظر، ويُخاطبُ الأُذُن بِجِرْسِه وإِيقاعه حين يُبْلَغُ بالسمْع، وماذا يبقى من الشعر إِذا فَقَدَ هيكليّته الشِّعريّة وجِرسه الشِّعريّ؟ إِنَّ كلمة "أُحِبُّكِ" مكتوبةً في رسالة إِلى الحبيبة في رسالة، لَها وقْعٌ بصريٌّ، ومهموسةً في سَمعها، لَها وقعٌ آخر تَمامًا. ولكن أُنبّهك من الوقوع في فخّ هيكلية شكلانية تقليدية قد تكونُ فاقدةً كلَّ مضمونٍ شعريّ، أَو في فخّ جِرْس لفْظيٍّ مسطَّح قد يكون ذا نغميٍّة رنّانةٍ ليست سوى تطريبٍ طنّانٍ فاقدٍ كلّ مضمونٍ شعريّ. صحيح أَنَّ الشاعر حرٌّ طليق وهو يملأُ أَمامه مساحة الصفحة البيضاء كاتبًا قصيدته، ولكن... أَيُّ قيمةٍ لِتَحَرُّرِه إن لَم يصلْ شِعرُهُ إِلى قرّائه ولم يَخترق مشاعرهم؟ وما قيمة مُعاناته إِن لَم تبلغْ عمقَ مُتَلَقّيه؟ لا قيمةَ لشِعر ليس يصلُ إِلى جُمهوره، ولا لشِعرٍ لَم يتلقفْه جُمهورُه، الحداثة ليست كسْر القوالب التقليدية بل هي أَن يكونَ الشِّعرُ نضِرًا في عصره ويبقى نضِرًا في كلّ عصر، من ذلك قول عنترة الجاهليّ: "... وَوَدِدْتُ تقبيلَ السيوف لأَنّها لَمَعَتْ كبارقِ ثغرِكِ المُتَبَسِّمِ"، وهو قول نضِرٌ في عصرِهِ وفي كلِّ عصر. الحداثة ليست تأْريخًا "كرونولوجيًّا" بالتسلسل الزمني، بل هي التواصل النَضِر من جيلٍ إلى جيل، فالتواصلُ مع الناسِ شرطٌ أوَّلُ ونابضٌ وحَيَوِيّ، وهو المعيار الأَساس. أَرجو يا أُستاذ أَحمد أَن أَكون أَوضحتُ لك الفكرة التي تطلبها مني عن مكانة الوزن، في القصيدة خصوصًا وفي الشعر عمومًا، مع تحيتي لك، وشُكري صحيفةَ "الرياض" التي تتيح لي التبسُّط في هذه الأُمور التقْنية الدقيقة عن الشعر، وهو ما لا تتيحه بهذا التبسُّط أَيُّ صحيفة أُخرى.