ينفُر البعض من القصيدة الكلاسيكية، جهْلًا قواعدَها الصارمة، أَو ادِّعاءً "مواكبةَ العصر". وكلا الموقِفَين مغلوطٌ ضعيف. الوزن ليس ضروريًّا؟ الضروريُّ هو الشعر. الوزنُ للشاعر كالنوتة للموسيقيّ، كاللون للرسام، كالخشبة للمسرحيّ، كالكاميرا للسينمائي. براعةُ المبدع أَن يقدِّمَ اللحنَ الجميل ويُنْسينا النوتات التي يتأَلَّف منها، واللوحةَ الجميلة ويُنْسينا الخطوط التي تتركَّب منها، والمسرحيةَ الجميلة ويُنْسينا الخشبةَ التي تتأَطَّر ضمنها، والفيلمَ الجميلَ ويُنْسينا الكاميرا التي دخَل من عينها. يعني أَن يَنسُج المبدعُ إِبداعه بتقْنيَّته البارعة، فيُدْخِلَنا مع إِبداعه إِلى "الحالة الثانية". هنا براعةُ الشاعر المبدع: أَن يأْتينا بقصيدةٍ جَميلةٍ ويُنْسينا تفعيلاتٍ عروضيةً تتراصف منها الأَبيات. من هنا أَنّ الوزنَ فخٌّ خطيرٌ (أُكرِّر: "فخٌّ خطيرٌ") يقعُ فيه اثنان: المتلطِّي خلْف الوزن ليَدَّعي شِعرًا فلا يأْتِي سوى بنَظْمٍ بارد، وغيرُ المتمكِّن الفاشلُ فيهربُ منه ويَروح يدَّعي أَنه شاعر "حديث" غير تقليديّ، لكنه لا يأْتِي سوى بِهَذَرٍ نافل. من يَجتازُ الفخَّ إِذن؟ الشاعرُ المتمكِّن من لعبة الأُصول، ابنُ الأَصالة الشعرية الذي ليس في حاجةٍ إِلى نبرةِ الوزن الخطابية على المنبر، ولا إِلى غنائية القافية في آخر كلّ بيت، ولا إِلى حشْوِ كلماتٍ وسيطةٍ كي يستقيَم له الوزن. هذه الأَصالة الشِّعرية لا تكون بنتَ ساعتها بل هي ثمرة الأَجيال. وإِذا التفعيلةُ اليوم صارت قديَمة (في رأْي البعض) فالتجديد لا يكون ابن الارتِجال. قد تولَدُ مع الوقت أَوزانٌ جديدةٌ وبُحور مُختلفةٌ تُثْبت قواعِدَها فتُصبح نَهجًا. الفيلسوف الأَلماني هيغل لم يكتب بيتَ شعرٍ واحدًا، ومع ذلك يجزم أَن "الشعر أَكملُ الفنون"، إِذ هو يُخاطب العين (يكتسبُ بِها الإِنسان 83 % من معارفه) فيُريحُها بِهيكليَّته الأَنيقة حين يُقرَأُ بالنظر في كتاب أَو مجلة، ويُخاطبُ الأُذُن (يكتسب بِها الإِنسان 11 % من مداركه) فيُريحُها بِجِرْسِه وإِيقاعه حين يَبْلُغُ المتلقّي بالسمع. وماذا يبقى من الشعر إِذا فَقَدَ بصريًّا هيكليَّته الشِعريّة، وسمعيًّا جِرْسَه الشعريّ؟ كلمة "أُحِبُّكِ" مكتوبةً إِلى الحبيبة في رسالةٍ، لَها وقْعٌ بصريٌّ، ومهموسةً في أُذْنها، لَها وقْعٌ سمعيٌّ آخر تَمامًا. ولكن -تَمَسُّكًا بالقديم أُصولًا وقواعدَ- لا نَقَعَنَّ بصريًّا في فخِّ الهيكلية التقليدية (الهيكلية الشكلانية - العمودية أَو غيرها - قد تكونُ فاقدةً كلَّ مضمونٍ شعريّ) ولا نَقَعَنَّ سمْعيًّا في فخّ الجِرْس (تَمَسُّكًا بالشعر الموزون) فقد يكون ذا نَغميٍّة رنّانةٍ لا تعدو كونَها تطريبًا طنَّانًا فاقدًا كلَّ مضمونٍ شعريّ. الشاعرُ حرّ؟ صحيح. ولكن... ما قيمةُ تَحَرُّرِه إِن لَم يصل شِعرُهُ إِلى جُمهور قرَّائه ولَم يَخترقْ قلوبَهم؟ ما قيمة مُعاناته إِن لَم تبلغْ عمقَ مُتَلَقّيه؟ أَيُّ قيمةَ لشِعر "حديث" لا يصلُ إِلى جُمهور "حداثته"، أَو لشِعرٍ "معاصر" إِن لَم يتلقَّفْه جُمهور عصره؟ الحداثةُ الحقيقيةُ أَن يكونَ الشعرُ نضِرًا في عصره وأَن يبقى نضِرًا في كلّ عصر. هوذا عنترةُ الجاهليُّ نضِرٌ في عصرِهِ واليومَ وكلَّ عصر: "وَوَدِدْتُ تقبيلَ السيوف لأَنَّها لَمَعَتْ كبارقِ ثغرِكِ المُتَبَسِّمِ". الحداثة ليست تأْريخًا كرونولوجيًّا بل تَواصُلٌ نَضِرٌ من جيلٍ إِلى جيل، فيطِيبُ الشعر الأَصيلُ كالخمرة المعتقة: كلَّما مرَّ عليها الزمنُ طابَت وتَأَصَّلَتْ، وظلَّت... طازجةً وحديثة. التواصلُ مع المتلقي شرطٌ أَوَّلُ نابضٌ وحَيَوِيّ. وربَّ شعراء مترجِمين صالحين شِعرَ الغرب، بقي شِعرُهُم الخاص غُربةً عن قرَّاء عصرهم، وتاليًا لن يبقى بعدَهم إِلى أَيِّ عصر.