أن نكون في حضرة الشِّعر، يعني أننا مستخلَصون لنستحقَّ الدخول إلى حَرَمٍ له هيبتُهُ وطقوسه، فليس كلُّ داخلٍ مستحقًّا، زارعًا جاء شاعرًا، أو حاصدًا جاء قارئًا أو على نقد. الشعرُ عملٌ فَنِّيٌّ صعبٌ لا يأْتي من غوى التباهي بلقب "شاعر". إنه، ككل فن عظيم، إبداعٌ فاخر تبتدعه النخبة وتقدِّمه للعامة. والإبداع ابن الصعوبة، ابن أُصول صارمة هي حصيلة تجربة الأجيال، وقواعد صعبة وأُسس عميقة تنضجُ طقوسُها حتى تُطلِعَ قصيدةً تتذهَّبُ في شمس البساطة، تمامًا كما حبة القمح: تنْزل صوب الجذور حتى تَطلَع مُختمرةً ناضجةً تتذهَّب في الشمس سنبلةً يَخالُها العاديون بسيطة وهي لا بسيط فيها سوى الشكل، أَما المضمون فاختمار بالقواعد والأصول. القصيدة برقٌ وميضٌ يترك فيك رعدًا كثيرًا، الشِّعرُ اختزالٌ في التقاط هنيهة البرق، والشاعر المتمكّن هو من يعرف كيف يشعل لَحظة برقٍ قليلة ويترك فيك لَحظاتِ رعدٍ تتردَّد طويلًا. هنا عظمة الكلاسيكيةِ عابرةِ العصور. إنها عصا سِحريةٌ في يد قائد أُوركسترا، ريشةٌ مُترَفَةٌ بين أناملِ رسّام، وترٌ يوجعُهُ الصّريرُ تَحت نقرات عوّاد. وإنما بهذه الكلاسيكيّة تُشادُ الرّوائع. للشعر رئتان: الموهبة والتقْنية، متلازمتان مضمونًا وشَكلًا، وثالوثٌ رئيسٌ: التناغُم والتناسُق والإيقاع، متلازمٌ وكينونة الإنسان في طبيعة قائمةٍ أصلًا على التناغم والتناسق والإيقاع. الطبيعة، نعم. ولا نُشيحَنَّ عنها باسم الحداثة والتجديد. الشمس قديمةٌ لا تتجدَّد ومع ذلك ليس من يقول إنها صارت موضةً عتيقةً أمام اكتشاف الكهرباء. والمناقبية لا تهرم، والأخلاق لا تشيخ. وهكذا الأُصول في الشعر: لا يَجوز تجاوُزُها باسم الرفض، وتجاوُزُ تراثِها باسم الحداثة، وتجاوُزُ ثوابتِها باسم العصرنة والثورة والتغيير. لا يُثار على دُربةٍ وراءها خبرة. اتِّباعُ الأصولِ والإبداع من داخلها، يولّدان الجمال ويكونان معيار المبدع الحقيقي. وهو ما ألمح إليه أبو حيّان التوحيدي في تشجيعه التجديد والتحديث، إنّما وفْق ما سمّاه "مذهب الاقتعاد". قيل له: "وما الاقتعاد؟" قال: "ألَّا تَخرجوا عن الأصول، وأن تُجَدِّدوا من ضمن القاعدة". وكما ليسَ التجديد هو الخروج على نغمية الإيقاع، كذلك ليس النظمُ (وزنًا وبحرًا وقافيةً) هو الشعر. القصيدةُ الكلاسيكية (والنِيُوكلاسيكية) عمارةٌ شعريةٌ تقوم، ككُلّ عمارة متينة، على هندسة دقيقةٍ وتقنيةٍ دقيقةٍ يشرف عقلٌ تقنيٌّ على اشتغالِها الدقيق حتى تنضجَ القصيدةُ مثلما ينضجُ فلذةً بعد فلذة قرصُ العسل. إذًا: لا تنثيرُ القصيدة هو الحداثة، ولا تقفية الكلام موزونًا هو الشعر. التجديد ليس التغيير المرتجل اللقيط. الوردةُ تُجدِّد من داخل العطر، والكنارُ من داخل كَرّاته، وغروبُ الشمس من داخل أَلوانه. فلا يَرتكبنَّ أحد إثمَ النثرية باسم الشعر، أو إثمَ الشعرية باسم النثر. لكل كتابةٍ أُبوَّتُها وبُنُوَّتُها ونظامُها. للنثر قواعده وأصول له بها يفاخر ولها يتعصب وعنها يدافع، والشعر عقد منظوم بتقْنيةٍ صعبةٍ وعجيبة. من هنا أنّ الوزن فَخٌّ خطير: يقع فيه المتلطِّي خلفه ليدَّعي شعرًا، ويهرب منه المُقَصِّرُ عنه فيدّعي أنّه يكتب "الشعر الحديث". الشعر العالي باقٍ منذ أول العصور ويبقى إلى آخِر الزمان. تَهُبُّ عليه العواصف، تعلو عليه الموجات، تُحاصره الموضات والدُرْجات والفُرجات، وهو يبقى سائرًا بأُبَّهةٍ الجبل، راسِخًا في جذوره الراسخة ككبرى شجرات النخيل.