في مسيرتي أو عشرتي مع علم الكلام أو هوايته، تعرفت على عشرات الكتاب والأدباء والمفكرين وحتى السياسيين، وكنت أجد أن جل هؤلاء يدفعهم عشقهم للكلام، إلى تقديم تضحيات كثيرة من ضمنها أو أبرزها الراحتان؛ المادية والنفسية وفوقهما الراحة الاجتماعية، التي تتمثل في اعتزال الأهل والناس، للتفرغ التام لما نذروا حياتهم له، مقابل هذه الفئة، فئة دافعها البروز والتالق دون جهد أو معاناة معتمدة على وصايا وعلاقات عامة. ومن ضمن الفئة الأولى صديق كاتب دفعته الحاجة في مقتبل حياته مع الكلام إلى نسخ كتاب من سبع مئة صفحة للفيلسوف فرويد لتتسنى له قراءته على مهل أو العودة إليه في أي وقت، لأن هذا الصديق لم يكن يملك في ذلك الوقت قيمة الكتاب، ولم تكن آنذاك قد خرجت ماكينات تصوير المستندات فما بالك بالشرائط المضغوطة! وهذا الصديق كان أيضاً يقضي الساعات في غرفته الصغيرة قارئاً وكاتباً في عز الحر، لأنه لم يكن يملك قيمة مروحة تلطف له جو الغرفة، حتى تحقق له بفضل هذا الجهد ما سعى إليه من مكانة مستحقة. ومثل هذا الصديق كثر من الذين بدؤوا المسيرة الصعبة من أول السلم، ففي الصحافة سوف تجد أن عديداً من الصحافيين الكبار صعدوا كما يقال من أول السلم، فأخذوا يعملون مجاناً شهوراً وسنواتٍ، حتى تحقق لهم الحصول على مكافأة أو راتب، يؤمن بعض حاجاتهم وحجات أهلهم. ومن هؤلاء من يستمر على هذه الحال الرقيقة حتى يفارق الدنيا دون يحقق أن شيئاً من طموحاته. ومن الفئة الثانية من يحرص، كما أسلفت، على تكوين شبكة علاقات عامة تساعده في تحقيق طموحاته في النجومية بشتى الطرق دون أن تكون بضاعته موازية لهذه النجومية أو المكانة التي تحققت له بفضل العلاقات العامة التي برع فيها أو عرف الطريق إليها، ليكون نجماً. لكن هذه العينة من أهل الكلام أو عشاقه أو الساعين إليه بجد واجتهاد ليكون من أهله قد لا تكون لديهم رغم هذه الجهود والعلاقات الموهبة التي تجعلهم يستحقون ما وصلوا إليه دون واسطة أو محسوبية أو شبكة علاقات عامة فاعلة نشطة، هذه العينة تختفي من المشهد تماماً بعدة حالات أبرزها توقف مكنة الضخ الدعائية، أو الوفاة. وعندي وأنا أكتب هذا الكلام طابو طويل من الأسماء والصفات في مجالات التمثيل والكتابة وحتى السياسة والاقتصاد أصبحت نسياً منسياً حال اختفائها من المشهد! بينما هناك أسماء موهوبة كانت تغزل مشروعها على مهل متحملة في سبيل هذا المشروع التعب وضنك العيش حتى أصبحت ملء السمع والبصر في مجالها. الموهبة مع الثقافة والصدق قادرة على خلق أصوات أصيلة مؤثرة مهما طال الزمان، لكن للأسف دون مال أو أضواء ساطعة من تلك التي تخلقها شبكة العلاقات العامة!