في اليوم التالي، 21 أيلول سبتمبر فيما كنت جالساً الى جانبه على السرير، أخذ فرويد يدي وقال لي: عزيزي شور، هل تتذكر الحديث الأول الذي دار بيننا؟ يومها كنت وعدتني بألا تتخلى عني حين تحلّ ساعتي. والآن لم تعد حياتي سوى عذاب متواصل لا معنى له على الاطلاق". هنا أشرت الى فرويد بأنني لم أنس أبداً ما وعدته به. فشعر بالراحة وتنهد، قائلاً لي وهو يحتفظ بيدي بين يديه:"أشكرك". ثم أضاف بعد لحظة من التردد:"ارجو منك أن تتحدث في الأمر مع آنا". والحقيقة أنه لم يكن في رنة حديث فرويد اي أثر لأية نزعة عاطفية، أو لأي اشفاق على الذات. كان في رنة صوته ادراك تام وواع لواقع الأمر لا أكثر. بعد ذلك، وتبعاً لرغبة فرويد، وضعت آنا في صورة ما تحدثنا به فرويد وآنا. ولاحقاً حين صار عذابه لا يحتمل، اعطيته حقنة مورفين مقدارها 2 سنتم. على الفور أحسست أنه مرتاح ثم نام نوماً هادئاً. كما أن شعور الألم سرعان ما بارح محيّاه تماماً. بعد 12 ساعة أعطيته حقنة ثانية. وكان يبدو عليه حينها أنه بات على آخر رمق وأن قواه كلها قد خارت. على أثر الحقنة الثانية دخل في غيبوبة عميقة لم يفق منها أبداً. وهو مات في شكل نهائي عند الثالثة من صباح يوم 23 أيلول سبتمبر 1939". بهذه العبارات يختتم الدكتور ماكس شور النص الطويل الذي أنجزه هو الآخر قبل أيام قليلة من رحيله بعد ذلك بثلاثين سنة، أي عام 1969، والذي أعدته زوجته هيلين شور للطباعة بعد ذلك وصدر للمرة الأولى في الانكليزية عام 1972، ليترجم على الفور الى الكثير من اللغات الأوروبية، ويصبح واحداً من المراجع الأساسية والأكثر أمانة في الحديث عن سير التحليل النفسي بلا منازع، حتى من دون أن يكون. وبحسب قول المؤلف نفسه، سيرة لفرويد تتابع حياته وأعماله خطوة خطوة. الكتاب عنوانه"الموت في حياة فرويد". ومن هنا لئن كان شور قد سجل تفاصيل كثيرة ومواقف عدة من حياة فرويد، منذ طفولته وحتى لحظة رحيله، فإنه حرص في كل فصل وقسم من هذا الكتاب الذي يقع في أكثر من 700 صفحة من القطع الكبير، على أن يتبع العنوان، فيجعل الكتاب يركز على مفهوم الموت وموقف فرويد منه، على اعتبار أن الموت هو العنصر الأساسي الذي يعتصر حياة المرء ويختصرها، وتتولد عن الخوف منه، أو الفضول تجاهه، أو محاولة مقاومته، واعتباره خلاصاً أخيراً - بحسب النظرة - تتولد عناصر الوجود الأخرى كافة. وكما فهم القارئ من العبارات التي افتتحنا بها هذا الكلام، كان ماكس شور، طبيب فرويد الخاص، منذ عام 1927، حتى رحيل فرويد عام 1939. وكان اللقاء بين الرجلين وبداية الصداقة، وعلاقة الطبيب بمريضه، قد حدث عام 1927، حين سأل صديق لشور، هذا الأخير عما إذا كان في وسعه أن يعتني بالباحثة النفسية ماري بونابرت التي كانت في حاجة الى فحص دم. فقبل شور وتوجه الى العالمة ليعتني بها، وهناك إثر حديث بينهما دهشت بونابرت حين أخبرها شور أنه يهتم في شكل جدي بالتحليل النفسي وأنه خلال اعوام سابقة، كان قد حضر إلقاء فرويد دروساً حول هذه المادة. على الفور سألت ماري بونابرت شور عما إذا كان يهمه أن يتعرف الى فرويد، فأجاب بأنه متحمس لذلك، لكن الذي حدث هو أن اللقاء تأجل عاماً، حتى كان شور في فيينا. وهناك كانت ماري بونابرت قد مرضتت مرضاً قاسياً، فراح ليزورها، وحين تحسنت حالها، اتصلت بفرويد ملحّة عليه في أن يأخذ شور كطبيب له، قائلة إن شور حالة نادرة، فهو واحد من قلة من أطباء حقيقيين يهتمون بالتحليل النفسي، وقبل فرويد... فصار شور صديقه وطبيبه. وراحت تدور محادثات طويلة بينهما خلال السنوات التالية، كما صار شور مطلعاً على تفاصيل حياة فرويد وعلى محادثاته مع الآخرين وعلى رسائله. ومنذ رحيل فرويد، كثرت الاتصالات بشور كي يكتب عن فرويد"من الداخل"، غير أنه لمشاغله وربما لخوفه من اضطراره للافصاح عن أسرار لا يحق له كشفها، عن حياة مريضه، راح يؤجل المشروع وإن لم يبرح ذهنه أبداً. وظلت الأوضاع كذلك حتى عام 1950. وكان شور في ذلك الحين يعيش في الولاياتالمتحدة، حيث يُسال في شكل يومي عن فرويد. في ذلك العام إذا صدر كتاب"ولادة التحليل النفسي"الذي يعتمد أساساً على مراسلات بين فرويد وفليس لم يكن سبق لمعظمها أن نشر، بل أن عرف أحد بوجوده. ونعرف اليوم أن القسم الأكبر من دارسي فرويد، خلال النصف الثاني من القرن العشرين اعتمدوا تلك الرسائل التي يفصّل فيها فرويد أموراً كثيرة. وبالنسبة الى شور، ما إن قرأ الكتاب حتى أحس أن الوقت حان كي يدلي بدلوه، في الحديث عن حياة دائماً ما نظر اليها الآخرون من الخارج. فهؤلاء كانوا يرون فرويد كجدار صلب لا يمكن اختراقه. أما بالنسبة الى شور، فإن حياة فرويد وكتاباته شيء واحد بحيث اننا قد نفهم كل ما كتب عقلياً... ولكن منذ اللحظة التي نربط فيها بين فرويد وكتاباته، بين سيرة حياته وتطور أفكاره، تتدبل الأمور تماماً، يصبح الفهم عقلياً وانسانياً وعاطفياً. فإذا أضفنا الى هذا أن طبيب فرويد، والذي"عجّل"بوفاته كما يمكن أن نفهم من الكلام أعلاه، من دون أن يكتفي بمشاهدته وهو يحتضر، نفهم كيف عنون شور هذا الكتاب... ولماذا؟ قسّم شور كتابه الى ثلاثة أقسام رئيسة سعى في أولها الى الحديث عن ولادة فرويد وبيئته العائلية وطفولته ثم سلوكه مسلك الشباب، واجداً في كل تلك المراحل، مشاعر فرويد الأولى حيال الحياة وحيال الموت. وقد وصل في هذا القسم، الى انعقاد الصداقة ثم انفراطها بين فرويد وفليس، تمهيداً، طبعاً للاشتغال في الفصول التالية على المراسلات بين الاثنين. وحتى وإن كان هذا القسم يستغرق ما لا يقل عن ثلث صفحات الكتاب، فإنه في الحقيقة لا يعدو أن يكون تمهيداً للقسمين التاليين، اللذين يميزهما عن كل ما كتب عن فرويد من قبل ومن بعد، ذلك الربط العميق بين حياة فرويد وعمله وموته... ولا سيما موقع الأحلام في الربط بين الموت والحياة والعمل لدى فرويد. وكان شور قد كرس نحو خمسين صفحة كاملة في القسم الأول لدراسة"الأحلام والموت"لدى فرويد، متحدثاً أولاً عن"عقدة ذنب الباقي على قيد الحياة"ثم عن"الموت في الأحلام"- مستنداً هنا بخاصة الى تحليل معمّق لكتاب فرويد عن"تفسير الأحلام"وصولاً الى الظروف التي أحاطت بانجاز فرويد هذا الكتاب الهام، في الوقت نفسه الذي ماتت فيه صداقته مع فليس، والتي كانت انتجت مئات الصفحات الرابطة بين الموت والحلم. في القسم الثاني من الكتاب، والذي يتسم غالباً بطابع علمي، بل تقني حتى، يحاول شور أن يدرس فرويد على ضوء عنوان القسم وهو"نحو نظرة علمية الى العالم"وهنا نراه يعود الى بعض نصوص فرويد الرئيسة وتحليلاته لغراديفا والأشباح، ليصل بعد ذلك الى خلافاته، في هذه المجالات بالذات مع كارل يونغ وميترينزي ثم فيستر. وفي هذا الصدد يحلل شور ثلاثة نصوص أساسية اشتغل فيها فرويد على مفهوم الموت في شكل خاص:"كبيرة هي ديانا الايفزيين"و"موضوعة الصناديق الثلاثة"، وأخيراً وبخاصة"المقدس والمحرم". أما القسم الثالث والأخير، فإنه يبدو القسم الأكثر حميمية، إذ يبدأ مع اصابة فرويد بالسرطان ما يحول كل حديث سابق لفرويد وشور بالتالي عن الموت، من حالة عامة جديرة بالدراسة النظرية، الى حالة خاصة جديرة بالتأمل الانساني والفلسفي. ويقيناً أن هذا الجزء من الكتاب هو الأقوى والذي ألقى على حياة فرويد وعمله أضواء كاشفة وجديدة، خصوصاً أنه يطاول السنوات التي كان شور يلازم فيها فرويد في شكل متواصل. وماكس شور 1897 - 1969، كان طبيباً ممارساً، لكنه اهتم خلال شبابه، كما رأينا، بالتحليل النفسي. وهذا ما مكنه من أن يضع هذا الكتاب، الذي قد لا يكون أكثر ما كتب عن فرويد شهرة، لكنه بالتأكيد النص الذي صار الباحثون يعتمدونه أكثر من أي نص آخر، حين يكتبون عن فرويد، خصوصاً أن مؤلفه لم يتنطح - كما فعل دائماً تلامذة فرويد - لنقض أو نقد أفكار المعلم، بل الى شرحها وتوضيحها، كما يفعل أستاذ مدرسة نزيه، معجب، ويريد أن يوصل أفكار المعلم لا أفكاره الخاصة. [email protected]