إن من ينظر في جوهر الاختلاف بين الإسلام والعلمانية يرى أنه لا يعود إلى ما تنادي به العلمانية من ادعاءات ومطالب سياسية أو اجتماعية كالديموقراطية والتسامح والتعددية بقدر ما يتعلق بالأسس الأخلاقية والفلسفية التي يقوم عليها كل منهما.. في كتاب "الوسطية" قراءة موضوعية لفلسفة العالم الحديث، هذا العالم الذي تشكل على مبادئ الحداثة السياسية التي أفرزتها التحولات التي شهدتها أوروبا خلال القرون الأربعة الأخيرة. وهي تحولات فلسفية سياسية قامت في الأساس على تأويل الدين برؤية تناقض الرؤية الدينية للعالم في محاولة لإحلال القومية في وعي الشعوب الأوروبية محل العقائد الإيمانية لكي يصبح الدين والأخلاق خارج التفكير السياسي، وهو تفكير أصلته النزعة المادية التي حكمت أوروبا والتي أفضت إلى العلمانية. وقد يكون من التبسيط أن نقول إن العالم الإسلامي قد بقي بمنأى عن تلك العلمنة وحركات التحديث، إلا أنه من الصعب في الوقت نفسه أن نقول إن العالم الإسلامي يسير على خط العلمنة على ما يشيعه بعض الكتاب العرب والذين يأخذون عن مرجعيات استشراقية. إلا أنه في الواقع لا علاقة ما بين التحديث والعلمنة، وهو ما تنبه له الفيلسوف البريطاني التشيكي إرنست جلنر حين قال: إن العلمانية وإن فرضت نفسها داخل الفضاءات الجغرافية والدينية الكبرى كاليهودية والمسيحية أو الفلسفات كالهندوسية والكونفوشيوسية إلا أن الاسلام يمثل استثناء من تلك القاعدة. وإن كانت ظاهرة العلمنة تعد ظاهرة حقيقية عند بعض المجتمعات إلا أنه لا يمكن تجاهل أن الاسلام فرض نفسه عالميًا ويبدو اليوم قويًا كما كان من قبل. وإذ كانت قراءة جلنر صحيحة من حيث التشخيص الموضوعي، إلا أنه لا أحد يستطيع القول إن العلمانية بسطت نفسها في المنطقة العربية الاسلامية أو أنها جذبت القطاعات الاجتماعية الحديثة، فالقطاعات الاجتماعية الحديثة والمثقفة تبدو اليوم منجذبة أكثر للفكر الإسلامي الحديث. فقد تمكنت المؤسسات الإسلامية الحديثة في العالم الإسلامي من تفعيل الإسلام وتنشيط مؤسساته الحيوية وإعادة صياغة الحقل الثقافي الإسلامي وجعله أكثر استجابة لمتطلبات الأزمنة الحديثة، وفتحت جسور التواصل بين الإسلام والعصر الحديث، وصاغت خطاباً إسلامياً حديثاً نقل فاعلية الإسلام من الهياكل التقليدية إلى المؤسسات الحديثة ومن نمط الإنتاج التقليدي إلى النمط الحديث دون أن يكون ذلك مشفوعًا بثقافات أخرى. فالتوجهات العلمانية اليوم تلقى مقاومة من أكثر القطاعات تعليمًا وتحديثًا وتثقيفًا في العالم الإسلامي، وإذا كانت بعض المدن الإسلامية الكبرى تعلقت بالنموذج الاجتماعي الثقافي الغربي إلا أنها اكتشفت فيما بعد أنانية الغرب وماديته وخطأ المراهنة عليه. ولعل من حصافة الجيل الإسلامي الحديث أنه تمكن من كشف زيف العلاقة المفتعلة ما بين التحديث والعلمنة، إذ وجد أنه لا علاقة على الإطلاق بينهما، وأنها كانت مجرد خدعة لتمرير العلمانية في المجتمعات الإسلامية من خلال مشروعات التحديث. ولذلك فمشروع التحديث في العالم الإسلامي يتقدم بوتيرة متزايدة، ولكن دون أن يوازيه أو يصاحبه تقدم على مستوى الحركة العلمانية، ولذلك تراجعت موجة العلمنة في العالم الإسلامي خصوصًا في أوساط المثقفين والقطاعات الشبابية الحديثة، مما دفع القوى العلمانية للاستنجاد ببعض دول الغرب الصناعي لفرض نمط من العلمنة الفوقية عبر المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. (فالإسلام دين إنساني وعالمي تعرض لتشويش كبير من خلال قراءته قراءة أيدلوجية وسياسية وليست قراءة معرفية وموضوعية)، تبناها إعلاميون وسياسيون ومستشرقون من أمثال المستشرق البريطاني "برنارد لويس" في محاولة لتثبيت صورة واحدة عن الإسلام بما يعرف في الغرب (الإسلاموفوبيا) وبطريقة مغرضة. إن من ينظر في جوهر الاختلاف بين الإسلام والعلمانية يرى أنه لا يعود إلى ما تنادي به العلمانية من ادعاءات ومطالب سياسية أو اجتماعية كالديموقراطية والتسامح والتعددية بقدر ما يتعلق بالأسس الأخلاقية والفلسفية التي يقوم عليها كل منهما، فبينما تستند العلمانية إلى تصور ترى في العالم المادي والدنيوي مصدرًا مطلقًا للقيم، فإن الإسلام يشدد على المرجعية الدينية. فالعلمانية كما يقول مارسيل جوشي -أحد منظريها الفرنسيين-: لا تعني ضرورة التخلي عن الدين أو العقائد الدينية عمومًا، بل تعني في بعد من أبعادها الأساسية الخروج عن الدين، بمعنى إعادة تأسيس ووضع الدين ضمن نظام الحالة الدنيوية وإعادة بناء النظام الاجتماعي العام على ضوء المبادئ الدنيوية بدل الاستناد إلى المرجعيات الدينية والروحية، وإذا ما فهمت العلمانية على هذا النحو، أي بمعنى المراهنة على إحلال القيم الدنيوية بديلاً عن الفكرة الدينية فعند ذلك تبدو صعوبة التواؤم بينهما، لأن الإسلام يجعل من التوحيد مسألة مركزية سواء في بنيان التصورات والوعي العام أو في مجال الاجتماع الإسلامي، ففكرة التوحيد تتعارض في جوهرها مع الفلسفة العلمانية التي تراهن على إحلال التصورات المادية. فالإسلام في جوهره دين لا يفصل الدنيوي عن الأخروي، والزمني عن الروحي، ويسعى إلى تجسيد رسالته في هذا العالم بأدوات هذا العالم. وما يميز الإسلام عن بقية الديانات الكبرى، بما في ذلك الديانات التوحيدية السابقة، هو هذا الترابط الوثيق بين الديني والدنيوي. ففي الإسلام التوازن المنسجم بين الدين والدنيا، وبين العالم الدنيوي والعالم الأخروي، بحيث غدا الجانب الزمني والروحي بعدًا مكيناً في الإسلام. فقد اكتسب الوعي الديني بنفسه ضربًا من الروحانية الدنيوية، أي الروحانية الفاعلة في هذا العالم. فالاعتراض على العلمانية من ناحية نزعتها المادية لا يخص المسلمين وحدهم بل تشاركهم فيه تيارات واتجاهات كثيرة في العالم تنبهت إلى مخاطر النظرة المادية النفعية على حياة الأفراد ونسيج المجتمعات، مدركة دور المعاني الأخلاقية والروحية في تغذية الحس المدني والأخلاقي لدى الإنسان في إقامة حياة سياسية واجتماعية متوازنة، عبر التخفيف من نوازع الأنانية الفردية والغيرية المفرطة. لذلك لم يكن غريباً دعوات بعض الغربيين بإحياء ما يسمونه بالقيم المدنية ومواجهة مخاطر النزعات العدمية والإلحادية على قطاعات الشباب، بإعادة الاعتبار للقيم الدينية في برامج الثقافة والتعليم. فأساس الخلاف بين الإسلام والعلمانية يكمن في التأسيس النظري لكل منهما وتحديداً دور المبادئ الدينية في توجيه الحياة، فالعلمانية تراهن على إقامة خط التمايز بين الدين والدولة، والفصل بين حقلي السياسة والدين، ففصل الدين عن السياسة التي تنادي بها العلمانية ليس إلا جزءاً من علمنة حقول أخرى كالاقتصاد والثقافة.