جاءَتْني من السيد أَحمد الزاهد رسالة إِلكترونية مطوَّلة أَكتفي منها بالمطلع كي لا أُثْقِلَ بطُولها على القرَّاء. من المطلع: "الأُستاذ الشاعر هنري زغيب: أَنا من قرَّاء صحيفة "الرياض"، وأُتابع مقالَك الأُسبوعيّ "في رحاب الرياض"، وخصوصًا منه السلسلة الأَخيرة "رسائل إِلى أَديب شاب"، وأُدوِّن ملاحظات أُفيد منها في أُطروحتي التي أَضعها عن التيارات الأَدبية الحديثة في العالم العربي. لكنني لم أَجد، ولا في أَيّ نص من سلسلة "الرسائل"، تعريفًا للشعر كما تفهمه، مع علْمي أَن للشعر تعريفات وتحديدات كثيرة. فهل لديك تعريف خاص بكَ؟...". جوابي للسيد القارئ بسيط وواضح: كما الحريةُ لا تُلمَس، والعطرُ لا يُلتَقَط، هكذا الشعر: لا يُفسَّر بل يُمارَس ويعاش. أَن نتلقَّاه مؤَثِّرًا في الإِحساس به، يكفي ليكون الإِحساسُ تفسيرَه بكامل وضوحه. الشعر فعل وانفعال بين الشاعر والمتلقّي قارئًا أَو مستمعًا. فإِذا لم يكن فعلًا ذا تأْثير، لا يُمكن أَن يولّد الانفعال. وهنا مزاجيّته. فلكلّ انفعالٍ إِيقاع. وهاتان غرابةٌ ونضارةٌ تَضُمّان كلَّ المعرفة وكلَّ الكون في مزيجٍ عجيب لا يُمكن تفسيرُه والتنظير له بالكلمات خارج جوّ الشعر. الشعر، يا أَخ أَحمد، عملٌ فنّيٌّ صعبٌ، لا يأْتي اتّفاقًا ولا يمكن أَن يكون تلبيةً فطريةً لمجرّد الرغبة الشخصية في التعبير. وهو، ككلّ فنٍّ عظيَم، إِبداعٌ فاخر يليق بصاحبه ويجب أَن يليق بمتلقّيه. لذلك لا يبقَى تواليًا على الأَجيال إِلَّا وحده الإبداعُ المُنْصَهِرُ بنار الصعوبة. فالفن الخالد في التاريخ خالدٌ لأَنه وُلِد في الصعوبة، والفن الذي يولد في الاستسهال لا يلبث أَن يذوي ويضمحلّ. معياره، الشعرُ، منهُ وفيه: فالشعر ابنُ الأُصول لا حاجةَ إِلى شرحه لبلوغ جَماليّاته. مثلًا: لوحات ميكلانجلو ابن الأُصول والقواعد والنُظُم التشكيلية الصعبة لا حاجةَ لِمن يشرحها كي نفهمها. هكذا الشعر الخالد: يكفي أَن نقرأَه فيبلُغنا ونُحبّه. بينما الشعر الخارج على الأُصول يَحتاج عند نشْره حَملةَ تنظيرٍ حوله وعنه وفيه ومصفّقين يُرَوِّجون له لكنه... سرعان ما يَختفي باختفائهم. الشعرُ الفاخرُ ابنُ الأُصول -وهو حصيلة تَجربة الأَجيال- لا يَحتاج أَحدًا ينظِّرُ له أَو يَشرحه أَو يُمَذْهِبُه أَو يُمَدْرِسُه، لأَنّ القِيَمَ التي يكون الشاعر خضَع لها، تكون أَثبتَت فاعليَّتها ونِهائيّتها عبر العصور. وهاك معيارًا آخر: حين الشعرُ ابنُ القيَم والأُصول، كلَّما قرأْتَه غُصتَ عليه والتذَذْتَ به كلَّ مرّة كما لأَوَّل مرّة. بينما الشِعرُ الذي يُشيح عن قِيَمٍ عُمرُها أَجيال، نقرأُه ونستهلكه من أَوَّل مرَّة ولا نشعر بالحاجة للعودة إِليه. بل أَكثر: لا نتذكَّر منه شيئًا إِلَّا إِذا تذكّرنا ما قاله عنه مُرَوِّجوه. الفرق بين الشعر واللاشعر هو كما يلي: اللاشعر يَحتاج كلام التنظير حوله لكي يكون، والشعر هو في ذاتِه الكلامُ عليه. وهاك أَخيرًا ما يلي: الشعر تعبير عن كينونة الإِنسان. الكينونة تُحدِّد الإِنسان عاقلًا، والشعر يترجم الإِنسانَ في فعله ومُمارساته. من هنا أَن الإِنسان، من أَوَّل عهده بالكلمة، قال الشعر تعبيرًا عن انفعالاته، بالغناء مرّاتٍ، ومرّاتٍ بالأَحاسيس الصامتة. والشعر، شكلًا ومضمونًا، لاحَقَ تطوُّر الإِنسان منذ بدائيّتِه السحيقة حتى أَقصى تَحَضُّره المعاصر. وتطوُّرُ الشعر ليس عملًا إِراديًّا بل هو حصيلة حياتية عفوية لتطوُّر الإِنسان من بيئته الضيقة إِلى الطبيعة الوسيعة. من هنا أَنَّ الإِيقاع في الشعر متلازمٌ متناغم متناسق وإِيقاع كينونة الإِنسان، في طبيعةٍ قائمةٍ أَصلًا على التناغم والتناسق والإِيقاع. تحيتي لك يا أَخ أَحمد. أَتمنى أَن أَكونَ أَضفتُ إِلى اشتغالكَ على أُطروحتك ومضةً من نُور.