منذ اقتنيت موسوعته وأنا أقرأ فيها وسرني حينما كانت من محتويات مكتبتي الصغيرة، كنت حينها في المرحلة الثانوية، وكان ذلك في صيف 1406ه في إحدى معارض الكتاب بمدينة الرياض بالمعهد العلمي بالشفاء، كانت هذه الموسوعة تلازمني في الإجازات الصيفية وفي مرحلة الثانوية والجامعة وما بعدها، بل وحتى الآن، فهي متعتي وكتابي الذي هو أنفس كتاب وأغلى مؤلف. مبدع هذه الموسوعة ومخترعها والسابق لإنجازها هو العلامة خير الدين الزركلي -رحمه الله- الذي لم يكن راصد تراجم فقط، بل هو مؤرخ وأديب وشاعر وكتبي وعالم بالمخطوطات العربية وأماكن وجودها، وهو كذلك مارس الصحافة وأصدر مجلة وصحف يومية، ويُعد رائداً صحفياً في سوريا، وأسّس مطبعة في مصر طبع بها بعض كتبه وكتباً أخرى لغيره وأطلق عليها المطبعة العربية، زاول التدريس بسوريا أيام شبابه، وألّف مقرراً للتلاميذ في النحو والإنشاد والتعبير وهو بهذا الصنيع رائد من رواد التعليم القدامي. طاف خير الدين الزركلي -رحمه الله- بلداناً كثيرة، وزار بعض البلدان الأوروبية وأميركا، ومعظم البلدان العربية، ويُعد دبلوماسياً سعودياً في الوكالة والمفوضية العربية السعودية بمصر منذ عام 1933م، ومنذ هذا التاريخ وهو يعمل بالسلك الدبلوماسي للمملكة العربية السعودية، ولم يشغله عمله الرسمي عن عالم الكتاب الذي رغم جولاته الرسمية التي يكلف بها من قبل وزارة الخارجية في البلدان الأوروبية والعربية إلاّ أنه استغل وجوده في هذه الدولة أو تلك بزيارات مكتباتها والتنقيب عن دفائن المخطوط فيها وتصوير ما يرغب في تصويره منها ولا يبالي بذلك حتى ولو طال أمد البحث. علم ومعرفة هو خير الدين بن محمود بن محمد بن فارس الزركلي بكسر الزاي والراء، هكذا في ترجمته التي هي بقلمه في آخر موسوعته (الأعلام) الجزء الثامن، ولد 1310ه ببيروت لأب دمشقي وأم دمشقية، يقول الزركلي: ونشأت بدمشق فتعلمت في إحدى مدارسها الأهلية وأخذت عن علمائها على الطريقة القديمة، ثم قال: وأديت امتحان القسم العلمي بالمدرسة الهاشمية ودرست بها. وذهب الزركلي إلى بيروت للتزود من العلم والمعرفة فدخل الكلية العلمانية تلميذاً في دراساتها الفرنسية كما يروي هو في سيرته ثم زاول التدريس في هذه الكلية أستاذاً للتاريخ والأدب. وخير الدين الزركلي -رحمه الله- له قصة مع مكتبة في تركيا، حيث كان يبحث عن كتاب ولم يعثر عليه، فقيل له أنه موجود في مكتبة «مغنيسة»، فركب السيارة ومضي في الطريق إحدى عشر ساعة، ولما وصل وجدها من أغنى المكتبات، لكن لا يوجد بها فهارس، وإنما أوراق غير مرتبة في اثني عشر درجاً، ثم بدأ يبحث في كل درج واستغرق بحثه صيفاً كاملاً، وعاد في الصيف الثاني ليرى ويطالع الدرج الثاني والثالث في كل صيف إلى أن اطلع عليها كلها، والأمة العربية تفخر بمؤلفاتها منذ بداية التأليف فإنه يحق لها أن تفخر بكتاب الأعلام للزركلي الذي يعد أحدى المؤلفات الخالدة. مناضل ومناهض وخير الدين الزركلي -رحمه الله- تعاطى الصحافة منذ وقت مبكر، وهو من روّاد الصحافة في سوريا ومن أرباب القلم، أصدر مجلة الأصمعي وكانت تصدر أسبوعية، ويلاحظ كيف اختار الزركلي لصحيفته هذا الاسم، فالأصمعي راوية العرب في عصره، فكأن هذه المجلة بمثابة شخصية الأصمعي التي تتحدث عن أمجاد العرب في القديم، وأصدرها حينما كانت البلاد الشامية تحت الحكم العثماني، فما كان من الزركلي إلاّ أن يحيي آثار العرب بهذه الصحيفة، ولكن لم يطل عمرها، إذ تم إقفالها من أجل صورة نشرها الزركلي على أنها صورة الخليفة المأمون، ولا أدري لماذا تحسست السلطة هناك من هذه الصورة؟ بعد ذلك أصدر الزركلي صحيفة بمدينة القدس عام 1930م واسم هذه الصحيفة الحياة مع زميلين له، وهكذا جاءها الدور فتم إغلاقها بسبب بعض المقالات، فالزركلي مناضل ومناهض لأي احتلال أجنبي على البلاد العربية، وكانت بعض البلاد العربية تحت الاحتلال البريطاني أو الفرنسي، قبل ذلك أصدر صحيفة باسم لسان العرب عام 1918م واستمرت ثلاثة أشهر وتنازل عنها لصديقه إبراهيم حلمي العمر، كذلك أصدر صحيفة المفيد عام 1920م مع شخص اسمه يوسف حيدر ونشر فيها عداءه للحكم الفرنسي وسخر نثره وقصائده ضد الاحتلال وحكم عليه بالإعدام كما ذكر أحمد العلاونة في كتابه القيم عن الزركلي 15-16. إخلاص وأمانة وقال خير الدين الزركلي -رحمه الله- في نبذته بقلمه: كنت قد فوتحت بعمل في الحكومة السعودية الفتية، وأجبت بالشكر، وأبلغني صاحب السمو الملكي الأمير فيصل آل سعود -الملك فيما بعد- تعييني 1934م مستشاراً للوكالة ثم المفوضية العربية السعودية بمصر -انتهى كلامه-، قضي الزركلي شطراً كبيراً من عمره في خدمة الدبلوماسية السعودية، وخدمها بإخلاص وصدق وأمانة، فكان عند حسن ظن القيادة العليا، وكان قريباً جداً من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- وأكرمه وقدره، ومثّل المملكة العربية السعودية في عدة مؤتمرات، الجدير بالذكر أن الزركلي الدبلوماسي الماهر الحادق كان أحد المندوبين السعوديين فيما سبق إنشاء وتأسيس جامعة الدول العربية، حين حضر الجلسات ثم التوقيع على ميثاقها -كما ذكر في سيرته بقلمه-، وقد مثّل الملك عبدالعزيز في عدة مؤتمرات دولية، ثم عمل في إدارة وزارة الخارجية في جدة عام 1944م، وكان يتناوب العمل مع يوسف ياسين في وزارة الخارجية وفي جامعة الدول العربية، وكان يوسف ياسين نائب وزير الخارجية، وفي عام 1951م رقي الزركلي إلى وزير مفوض ومندوب دائم لدى الجامعة العربية، ويذكر هذه المرحلة الزركلي حينما كان في مصر مندوباً بالجامعة العربية قائلاً: وشعرت بالاستقرار بمصر وباشرت مع أعمالي الرسمية طبع هذا الكتاب أي كتابه الأعلام الذي كان شغله الشاغل ومالئ وقته كله، بل حياته وثقله العلمي في ذلك الكتاب. سفير ومندوب وأوضح خير الدين الزركلي -رحمه الله- أنه تم تعيينه 1957م سفيراً ومندوباً ممتازاً حسب التعبير الرسمي في المغرب، بعمادة السلك السياسي هناك، مضيفاً: قضيت فيها مدة ثلاثة أعوام، ومرضت 1963م ودعيت إلى الرياض فمنحت إجازة للراحة والتداوي غير محدودة واخترت الإقامة في بيروت. هذه رحلة الزركلي الدبلوماسية منذ 1934م حتى 1963م، ومنذ ذلك الوقت وحتى وفاته تفرغ للبحث والقراءة وتصحيح ومراجعة كتاب الأعلام واتمام بعض مؤلفاته التي أعدها للنشر مثل كتابه (شبه الجزيرة العربية في عهد الملك عبدالعزيز). وذكر الباحث أحمد العلاونة في كتابه القيم عن الزركلي أنه في عام 1963م دعي إلى الرياض فطلب من الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله- إحالته إلى التقاعد وقال له مازحاً: أنا أكبر منك يا فيصل أحيلوني على التقاعد حتى استريح، فأجابه الملك: سأعتصرك لآخر قطرة فيك، فطلب الزركلي من الملك فيصل الاعتكاف لإنجاز كتاب شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز فمنح إجازة غير محددة واختار الاقامة في بيروت وأعطي شقة مطلة على البحر وسيارة وسائق وطابعة وخادمة؛ لأن أولاده في القاهرة، فأكرمه الملك فيصل نظراً لجهوده وخدمته للدولة، وكان شعلة نشاط وحيوية لا تهدأ أبداً ولم يتوقف عن البحث حتى توقف قلبه ورحل عن دنيانا، فما كان من الملك فيصل إلاّ أن كافأه بهذه الأمر، ولعشقه العلم تفرغ لإنجاز كتاب الملك عبدالعزيز وليس لراحته الشخصية، ومكث في بيروت فكانت خاتمة حياة هذا العالم المحقق الجهبذ العلامة فيها مشتغلاً بهذا الكتاب وبكتابه الأعلام الذي لم يهمله مطلقاً طوال حياته حتى رحل عن دنيانا، فكان مع هذه الإجازة والمكرمة الملكية لا يرحم نفسه بل يبحث وينقب ويرحل من أجل مخطوطات يريد الاطلاع عليها أو تصويرها واقتناءها، فقد رحل إلى إيطاليا ودمشق وتركيا وسويسرا والقاهرة وإلى المملكة، والتقى بالعلماء والأدباء والمفكرين في بيروت وأفادوا منه واستفاد منهم ومنهم الشيخ حمد الجاسر الذي قرأ عليه كتابه شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، كما ذكر الباحث أحمد العلاونة في كتابه عن الزركلي، وهكذا من اعتاد البحث في الكتب والمخطوطات أصبح هذا الشيء يجري في دمه مهما انشغل بأمور أخرى. شاعر متمكن وخير الدين الزركلي -رحمه الله- شاعر متمكن من شعراء سوريا في العصر الحديث، وقد كتب شعراً في شبابه، وأطلق عليه عبث الشباب فاحترقت هذه المجموعة من الشعر، وسخّر معظم شعره لقضايا وطنه، وكانت قصائد حماسية مهيجه للشعب السوري بمقاومة الاحتلال، ولهذا حكم عليه بالإعدام مرتين وصودرت أملاكه، ولم يعبأ بهذا الأمر بل ظل يكافح ويناضل من أجل حرية واستقلال بلاده، يقول الأديب العالم د. محمد رجب البيومي في كتابه النفيس النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين: يستطيع من يؤرخ للسياسية العربية في سورية ولبنان وفلسطين والحجاز في الربع الأول من القرن العشرين أن يجعل ديوان الزركلي أحد مصادره المهمة؛ لأن الشاعر كان ينفعل بالأحداث انفعالاً لا يقف عن القول الشعري فقط، بل يصل إلى المشاركة الحقيقية في اتجاهها، وقد تكون المشاركة تأييداً لاتجاه يميل إليه كما تكون معارضة صارخة لما يخالفه من الاتجاه، ويتابع حديثه قائلاً: الزركلي شاعر الأناشيد الحماسية الأول في دنيا العروبة، فقد لمس تأثيرها في الشبيبة وعلم أنها نفس تردد في الرئة قبل أن تكون كلمات تتردد في الحناجر. وقصيدة الزركلي النونية التي تعد من عيون الشعر العربي الحديث التي تصدّرت في أول ديوانه ومطلعها: العين بعد فراقها الوطنا لا ساكناً ألفت ولا سكنا وكنت قد قرأت شيئاً من قصائده في ديوانه الذي طبع بعد وفاته قبل عشرين عاماً، لكن قصيدته هذه بعنوان نجوى تعد ديوان لوحدها، ومن قصائده المثيرة قصيدته في حفلة معركة حطين، وكان قد ألهب الجماهير بهذه القصيدة الحماسية ومنها يخاطب صلاح الدين الأيوبي وهو مدفون بدمشق: يا راقداً في الشام يسقيك غاديها قد خلت الآجام من رابض فيها توالت الآلام وانقض مزجيها هل ترجع الأيام بيضا لياليها رملة أو حصاة وموسوعة الأعلام التي خطها خير الدين الزركلي -رحمه الله- منحها صحته وشبابه وكهولته ومشيبه، بل وماله، لم يهمل هذه الموسوعة منذ بدأ باكورة تأليفها، عمل لا يقدر عليه إلاّ فريق من العلماء المتخصصون بالتراث المطبوع والمخطوط، قام به فرد لوحده، طبعاً مستعيناً بالعلماء، لكن هو الذي يكتب ويحرر ويدقق ويحقق وينسخ ويتحرى ما يراه الصواب في الترجمة، وأحياناً يكتب الترجمة ويعلق في الهوامش ما ترجح لديه من اسم المترجم وتحقيق عصره ووفائه، يقول الزركلي: في مقدمة الطبعة الثانية لموسوعته الأعلام هذا نتاج أربعين عاماً خلال فترات استجمام وفتور وانصراف إلى بعض مشاغل الحياة، أمضيتها في متابعة العمل تهذيباً واصلاحاً وتوسعاً وإعداده للطبع مرةً أخرى، ولم أطمع من وراء ذلك إلاّ أن يكون لي في بنيان تاريخ العرب الضخم رملة أو حصاة، وقد تحققت أمنية الزركلي في حياته وبعد وفاته غفر الله له، فأصبح كتابه الأعلام لا يستغنى عنه أي قارئ للعربية أياً كان مستواه العلمي، حتى أنه أعد الطبعة الرابعة قبل وفاته وطبعت بعد وفاته، وبقراءة مقدمة الطبعة الثانية نرى جهد الزركلي بارزاً للقراء الذين أهدى إليهم هذه الموسوعة الزاخرة بالفوائد والفرائد والنوادر والطرف والأدب واللغة والشعر والتصحيحات والتنبيهات وجلاء بعض الأوهام لدى بعض المؤلفين في التراث العربي، وعرض نماذج كثيرة من خطوط العلماء والأدباء، لقد أسدى الزركلي للأمة العربية مشروعاً علمياً ضخماً خالداً باقياً ما بقي الدهر، وخلّد اسمه في عالم الكتب والمؤلفين، لم يرد بذلك الشهرة ولا المال أو المنزلة بل خدمة للعلم وللمكتبة العربية، وما زلت أكرر بيت محمد البشير الإبراهيمي عالم دولة الجزائر -رحمه الله- في وصف الزركلي: الدين خير كله وأنا أرى من خير هذا الدين خير الدين صدق الإبراهيمي، ولم يبعد عن الحقيقة، فخير الدين الزركلي مما أنجبته الأمة العربية، وكان فألاً وخيراً وسعداً على هذه الأمة العربية بأن قدّم للأمة العربية هذه الموسوعة. مرض القلب وشغل الباحثون والعلماء وأصحاب القلم بموسوعة الأعلام من مصحح ومستدرك، وذكر محمود الأرنؤط في كتابة أعلام التراث أنه أول من دعا إلى إتمام وتذييل كتاب الأعلام. وقال عبدالعزيز الرفاعي في كتابه فوات الأعلام عن كتاب الأعلام: ولقد قلت ذات مرة أنه لو سئلت عن أعظم كتاب عربي صدر في القرن الرابع عشر الهجري لقلت دون تردد أنه كتاب الأعلام للزركلي. وألّف خير الدين الزركلي -رحمه الله- عدة مؤلفات أشهرها كتابه شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز، وهو يعد من المراجع الأساسية والمهمة في تاريخ الملك عبدالعزيز، فرغ نفسه في هذا الكتاب عدة سنوات لمّا كان مستقراً في بيروت وقرأ هذا الكتاب على الشيخ حمد الجاسر، وله كتاب آخر بعنوان ما رأيت وما سمعت، وكتاب عامان في الأردن، وغيرها من الكتب. وكان الزركلي في أواخر أيامه مرض بالقلب ووضع له جهاز لتقوية القلب، وتعافي بعد ذلك، ثم اشتد مرضه عام 1976م، وكان في القاهرة وأدخل أحد مستشفياتها وتوفى يوم الخميس الثالث من ذو الحجة 1396ه -1976م- وصلى عليه يوم الجمعة في مسجد عمر مكرم و دفن بالقاهرة. وهكذا نكتب عن الزركلي بعد وفاته بست وأربعين عاماً، وأقول كما قال الأول: لازلت تلهج بالتاريخ تكتبه حتى رأيناك في التاريخ مكتوباً ملاحظة: صور الموضوع من كتاب أحمد العلاونة عن حياة الزركلي. في أحد الاجتماعات الرسمية للمملكة وبجواره يوسف ياسين وعبدالرحمن عزام خير الدين بن محمود الزركلي -رحمه الله- خط الزركلي ويذكر فيه إعداده للطبعة الرابعة من كتاب الأعلام الزركلي مع ظافر القاسمي كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي