ما إن تذكر مفردة «الأعلام» إلا ويأتي في الذاكرة صاحب قاموس «الأعلام» الأديب والمؤرخ خيرالدين الزركلي –رحمه الله– الذي ارتبط اسمه بهذا المصنف الكبير، والذي أسدى به للناس نفعاً، فما من باحث أو دارس، إلا كان قاموس «الأعلام» مرجعاً له يقلب فيه النظر ويطمئن إلى ما كان فيه شاكاً. وخير الدين الزركلي مثلما عرفه المتلقي منشئ الأعلام كذلك عرفته طبقة من المثقفين كاتباً ناصع البيان مشرق الديباجة، وشاعراً بديع القوافي جميل الصور، وكذلك مؤرخاً يتقصى الحقيقة ويلتمس الصدق، كما عرفه سائر الناس بعد ذلك مشتغلاً بالقضايا الوطنية في مطلع شبابه ودبلوماسياً ماهراً في الخارجية السعودية. بعد رحيله عام (1396ه) لم يقف بالدرس والتمحيص باحث على جهده العلمي أو يتناوله ناقد أو كاتب ويبرز جهاده في ساحة الكتابة، لكن الباحث والأديب الأستاذ أحمد إبراهيم العلاونة، قد ردَّ له شيئاً من التقدير بعد أن كاد يتخَطّفه النسيان، فألف عنه كتابين أحدهما صدر قبل أكثر من عشر سنوات وحمل عنوان «خيرالدين الزركلي، المؤرخ الأديب الشاعر»، واليوم يفرد له الأستاذ العلاونة كتاب آخر وسَّمه ب»خيرالدين الزركلي.. دراسة وتوثيق» الصادر مؤخراً عن دارة الملك عبدالعزيز بالرياض، وقد خص فيه المؤلف صلة الزركلي بالملك عبدالعزيز وأبنائه الملوك سعود وفيصل وخالد رحمهم الله وكذلك بعض الأعلام السعوديين الذين عاصرهم، وتوقف كذلك عند كتابه الهام «شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز»، كما أشار إلى تجربته الشعرية، ومصنفاته الأخرى، ناهيك بما ألحقه العلاونة بكتابه من وثائق وصور تدعم الكتاب وتضفي له المصداقية. تقول الدارة في معرض تقديمها للكتاب: وقد حرصت دارة الملك عبدالعزيز على طباعة هذا الكتاب ونشره تقديراً منها للجهود الكبرى التي بذلها هذا العلم في تاريخ الأمة العربية والإسلامية بصورة عامة، وما قدمه من خدمات جليلة إلى تاريخ المملكة بصورة خاصة، إلى جانب جهوده في الدبلوماسية السعودية التي عمل فيها مدة طويلة من الزمن. انطوى هذا الكتاب على تمهيد وفصلين حقق فيهما المؤلف نجاحاً كبيراً فقد كشف عن الزركلي وأبان دوره الفكري والثقافي الكبير وأودعه جمهرة من المعلومات التي استقاها من مصادر متعددة ومراجع مختلفة إضافة إلى علاقته مع من بقى من أسرة الزركلي. استقبلت بيروت عام (1309ه = 1893م) مولد خيرالدين الزركلي وهو من أبوين سوريين، وسرعان ما عادت الأسرة إلى دمشق لتعهد به امرأة حفظ القرآن الكريم والقراءة والكتابة، وما أن وصل خيرالدين إلى سن الفتوة حتى رأى في نفسه ميلاً شديداً إلى قراءة كتب النحو واللغة والأدب والتاريخ والشعر ووقعت في نفسه موقع الإعجاب ما جعله يختار الاشتغال بالتحرير الصحفي مطلع شبابه، فحرر في غير صحيفة، ولم تصرفه هذه المهنة إلى عشقه الثقافي فكان يغشى حلقات العلم وينهل من بعض مشائخ الشام أمثال: جمال الدين القاسمي وطاهر الجزائري وعبدالقادر بدران ومحمد كرد علي وأبي الخير الميداني، ثم عاد الشاب الزركلي إلى بيروت فدرس في الكلية العباسية وكذلك في الكلية الفرنسية، وحين استوى كاتباً ومنشأً بدأت الصحف تنشر مقالاته، عاد الزركلي إلى دمشق ليؤسس عدداً من الصحف فانشأ «الأصمعي» و»لسان العرب» و»المفيد» مع نفر من الصحفيين الشاميين، لكن الظروف السياسية التي شهدتها بلاد الشام في تلك المرحلة حيث كانت الدولة العثمانية في رمقها الأخير وسوريا تصطلى بنيران الاستعمار الفرنسي، فما كان له إلا أن يمم تجاه مصر فنزلها ومكث بها شهرين وعنَّ له زيارة الحجاز والأماكن المقدسة، فهبط الحجاز في عهد الشريف حسين بن علي، وطاب له أن يجول بين مدنها وقراها ويرصد ما يشاهده من آثار وعادات وتقاليد وآداب في كتاب عنونه ب»ما رأيت وما سمعت» ولم يلبث الزركلي في الحجاز سوى ثلاثة أشهر ومنها انطلق إلى الأردن ليعمل في حكومة شرق الأردن فدّون مشاهداته فيها أيضاً وأصدرها في كتابه «عامان في عمّان» مسجلاً فيه كثيراً من الحوادث التي عايشها هناك. لخيرالدين الزركلي طائفة من غرر القصائد التي جمعها في ديوان عرف باسمه وطبع بعد وفاته وضم أكثر من أربع مئة قصيدة تنوعت بين الوطنيات والمراثي والإخوانيات والوصف والمعارضات التي عارض بها كوكبة من الشعراء، كما يضم الديوان جمهرة من القصائد التي مدح بها الملك عبدالعزيز والملك سعود والملك فيصل والملك خالد ومن جميل نظمه مطولة شعرية ألقاها في وادي فاطمة (1348ه) ومنها هذه الأبيات: أأشهد هاتيك الوجُوه، وقَدْ بَدا عليها سَنَى أخلافِ مَجْدٍ وأسلافِ هنالك من أبناء يعرُب أمةٌ كَمُلتَمع الحدّين زين بإرهافِ حجازية، نجدية، مضرية من الدين والدنيا لها المورد الصافي تقدمها «عبدالعزيزِ» فصانها من الحَلَك المرئّي والشَّرَك الخافي دعا، فأجابته الجموعُ فقادَها فوحّد أشتاتاً وقام بأحْلافِ ولا يصح الحديث عن الزركلي دون أن نقف عند مصنفه الشهير «الأعلام» وهو من أهم وأشهر كتب التراجم في العصر الحديث، إن لم يكن أنفسها، فقد حوى (15000) ترجمة لأعلام من العصر الجاهلي حتى عام (1395ه) عاد فيه إلى عدد كبير من المصادر والفهارس وأودعه عدداً من صور المترجمين ونصوص بخطوطهم من نثر وشعر، وقد طبع أول مرة عام (1347ه) في ثلاثة أجزاء وبقي الزركلي يولي «الأعلام» عنايته وإهتمامه من إضافة ومتابعة وتدقيق حتى وصلت طبعات إلى أربعة عشر طبعة عام (1419ه) جاءت في أثنى عشر مجلداً. ولا أنس أن للأديب الزركلي جمهرة وافرة من المقالات الأدبية والسياسية والوطنية التي نشرها في جملة من الصحف، كونه أنشأ أكثر من صحيفة ومعنى ذلك إنه صاحب قلم سيّال تدفعه الأفكار والأحداث التي شهدتها المنطقة العربية، فيضع رأيه بين القراء، ومن أبرز هذه الصحف: «المقتبس» و»المفيد» و»المؤيد» و»أم القرى» و»المقتطف» و»النفائس» و»لسان العرب» و»الأصمعي» وغيرها من صحف ذلك العهد. ورجل مثل الزركلي له القدح المعلى في التاريخ والأدب والشعر لابد أن يكون له خزانة كتب كبيرة تضم كل نفيس وحافلة بكل جديد ناهيك عن المخطوطات النادرة، فما كان منه إلا أن أهداها – رحمه الله – إلى جامعة الملك سعود بالرياض لتكون رافداً لكل طالب وباحث. أما جوهر الكتاب فقد خصَّه المؤلف العلاونة عن قصة تأليف خيرالدين الزركلي كتابه الهام والمرجع «شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز» وهو كتاب ثري بالمعلومات غني بالأخبار، حافل بالروايات، وقد بقى رافداً لكل من رام النظر في تاريخ المملكة ومؤسسها، لكونه جمع فيه خلاصة تاريخ هذه البلاد، وحكامها من الأئمة والملوك، وما رافقها من أحداث، كل ذلك بلغة عالية جزلة، فصاحب الكتاب أديب وشاعر ولا غرو أن يكون أسلوبه شائقاً وماتعاً، وزاد من روعته أن مصادره كانت ممن خالط الملك المؤسس أو ممن حضروا بعض الوقائع أو شاركوا في إعداد بعض الوثائق الرسمية، كذلك عاد إلى بعض الشخصيات كأحمد علي ويوسف ياسين وحمد الجاسر وبعض الكتب مثل: «تاريخ نجد» و»مذكرات خالد الفرج» و»صقر الجزيرة» و»جزيرة العرب في القرن العشرين» كل تلك الشخصيات والمصادر أضفت على الكتاب قوة ومصداقية. أما قصة تأليف الكتاب، فقد أراد به مؤلفه أن يقدمه للملك عبدالعزيز عام (1369ه) بمناسبة الاحتفال بمرور نصف قرن على فتح الرياض (1319ه) وأراد له اسم «السجل الذهبي» وفي أثناء الإعداد لطباعة الكتاب توفي الملك عبدالعزيز – رحمه الله – عام (1373ه) فارتأى أن يوسّمه باسم آخر فتعددت أسماء الكتاب حتى وقع الاختيار على الاسم الذي هو عليه الآن، فعكف على تأليفه بعد أن منح إجازة على ذلك واختار المقام أثناء التأليف مدينة بيروت. أما مضامين الكتاب، فقد انطلق الزركلي في كتابه «شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز» والذي – أهداه إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز - رحمه الله- مبتدئاً بالأمير سعود بن محمد بن مقرن ثم انتقل الحديث بعده إلى ابنه الأمير محمد بن سعود ودوره البارز في نصرة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ثم شرع الزركلي الحديث عن الأئمة والحكام من آل سعود من بعده حتى انتهى به الحديث إلى الملك المؤسس فتوقف عند مولده ونشأته ثم استرداده الرياض وينطلق بعد ذلك إلى ضم الملك عبدالعزيز الأقاليم والمناطق واحدة بعد الأخرى، كما أتى على أخبار الفتن التي عالجها الملك المؤسس بحنكته، وتطرق إلى علاقته بالزعماء والساسة والقادة من عرب وعجم الذين كانوا في تلك الحقبة، ثم أتى المؤلف الزركلي يدون الأعمال الداخلية للبلاد كأنشائه الوزارات والتمثيل السياسي مع الدول الأخرى، وكذلك المعاهدات والأمن والقضاء وعنايته بالحج وكثير من النظم الحديثة التي سنها الملك عبدالعزيز مثل التعليم ودعم النهضة الأدبية والصحفية وإنشاء السكة الحديد وإيصال الكهرباء للمدن وتوطين البادية وتوفير المياه ويتطرق إلى دور استخراج النفط ودعمه في حركة التحضر ونمو العمران، ثم يعرج الزركلي إلى دور الملك عبدالعزيز في تأييده فكرة إنشاء جامعة الدول العربية، وكذلك موقف الملك عبدالعزيز الواضح من القضية الفلسطينية. واختتم الكتاب بإيراد أخبار كرمه وأيامه الأخيرة حتى انتقل – طيب الله ثراه – بالرفيق الأعلى. لذلك جاء هذا الكتاب على رأس قائمة الكتب التي تحدثت عن عهد الملك عبدالعزيز وعن المملكة العربية السعودية بكل تميز ولا ريب في ذلك. لذلك يحمد للعلاونة إهتمامه أفراد هذا الكتاب عن علم بارز من جيل النهضة قدم لأمته جمهرة من المصنفات الأدبية والشعرية والتاريخية التي سدت فراغاً كبيراً في المكتبة العربية.