سأُحدِّثكَ اليوم عن العلاقة بين الفكْر واللغة، بين المجرَّد وترجمتِه كلماتٍ ونُصوصًا. قد يذكر قرَّاء «الرياض» تشديديَ تكرارًا على الفصل بين الشعر والنثر، وعلى ما بينهما من فوارق شكليَّة ومضمونيَّة. سوى أن هذا الفصل لا يطال جوهر الفكر من حيث هو روح، ولا منطق اللغة من حيث هي جسد. أتبسّط لك في هذا الأمر لأقول إن الفكر روح تحتاج جسدًا كي تتجسَّد وتولَد، واللغة جسد يحتاج روحًا كي يكون له نبضٌ فتعبيرٌ فبقاء. أما بين الشعر والنثر، فكما بين الجسد والثوب: أن تكتب شعرًا أو نثرًا، فهذا ثوب اللغة، يمكن تبديلُه وتعديلُه في أَي وقت. لكن الجسد، وهو المضمون، لا يتبدَّل لأنه هو الأساس. من هنا أن الفكر يمكن أن يلبس أيّ لغة من لغات العالم فيَصل إلى متلقيه بالثوب المناسب لديهم. يبقى أن نعرف كيف نُلبس الفكر لغة تليق به وتوصله إلى المتلقين بالأسلوب الأفضل والتعابير الأنقى، ولا فرق هنا أن يكون ثوب التعبير شعريًّا أو في إقليم النثر. قد تَعجب أن أساوي في حديثي إليك بين الشعر والنثر، أنا المنحاز منذ مطالعي إلى الشعر. هذا صحيح، لكن الشعر في طبيعتي لا يُشيح عني وعيَ أهمية النثر كفن لا يقلُّ رفعةً عن الشعر. بين الشعر والنثر ما بين المشْي والرقْص. حين تسير ماشيًا، أَنت حُرٌّ في التنقُّل على إِيقاعك أَنت كما تشاؤُهُ أَنت، تتباطأُ، تُسْرع، تتوقَّف، تغيِّر طريقك، تستريح، تواصل، فلا قاعدة ولا ضابط (إلّا الأُصول الرئيسة والجماليا بالطبع)، وبراعتُك هي في أن تُنسي القارئ هذه التفاصيل التقنية فلا يبقى على وجه النص إلّا ما هو سائغ وسلِس وجميل. بينما حين ترقص، أنت ملتزم بإيقاع الوزن وموسيقى البحر وهَدْلة التفعيلة وحدود البيت وتشطير الصدر والعجُز ووحدة القافية أو حتى تنوُّعها، وبراعتُك هي في أن تخبِّئ جميع هذه التفاصيل التقْنية فلا يبقى على وجه القصيدة إلّا أناقة الفكرة التي تصوغها في أناقة لغة. وما المعيار؟ إنه الفرق بين التجديد والتقليد. في الشعر كما في النثر، المعيار هو ذاتُه. لذا أنصحك بالتخلّي كليًّا (ولا أقول بالابتعاد فقط) عن كل تعبير، أو مفردة، أو صياغة، أو مقولة، أو عبارة، أو طريقة سبَقَ استعمالُها واستهلاكُها وتردادُها في النثر أو في الشعر، ولْتكُن لك أنت مفرداتك الخاصة، ولو كانت من القاموس، إِنما براعتُك هي في كيفية استعمالك إياها وأين تضعها في سياق جملتك أو قصيدتك. التجديد: نَفْضُ ما هو موجود. وكلُّ تَطَلُّع إلى التجديد يجب أن ينطلق من داخل تراث، وإلَّا جاء أرعنَ طافرًا. فلا تقعْ في أيٍّ من النقيضَيْن: أن يتنطح أحد إلى تقفيةِ كلام سرديّ نثريّ عاديّ موزون غيْر مشغول في صناعة عالية، أو أن يَتَنَطَّحَ آخر فيعمد إلى تنثيْر القصيدة حتى تفقد مقوّماتها الشعرية. تفكيك القصيدة الموزونة ليس الحداثة، كما تقفية الكلام الموزون ليست الشعر. التجديدُ ليس التغيير المرتَجَل. الوردةُ تُجدِّد من داخل العطر، والكنارُ من داخل كرّاته، وغروبُ الشمس من داخل ألوانه. ولا يمكن أن يكونَ خروجٌ على الداخل، كارتكاب إثم النثرية باسم الشعر، أو إثم الشعرية باسم النثر. لكل كتابةٍ أُبُوَّتُها وبُنُوَّتُها ونظامُها الخاص. فاعمَدْ إلى أن تكون أنت لا صورة مكرَّرَةً عن سواك. هنا فرادتُك، وهنا ضمانةُ خلودك وخلود كتابتك.