هل تُمكن تنقيةُ النثر من النثر كما تنقيةُ النثر من الشعر؟ طبعًا تُمكن. أَليس نثرًا كلُّ نصٍّ نثري؟ طبعًا لا. أَليس ما يُقال في القصيدة يمكن قوله في النَثيرة؟ أَبدًا. ليس نثرًا أَيُّ نصٍّ نثري، كما ليس شعرًا أَيُّ نصٍّ منظوم. وكما في كل شعرٍ قصيدةٌ وليس في كل قصيدةٍ شعرٌ، كذلك ليس في كل نصٍّ نثرٌ يستاهل برَكَةَ النثر. للنثر بُعدَان: حين يكون وسيلةً، وحين هو غاية. أَن يحرِّر أَحدُهم نصًّا عاديًّا (رسالةً، خبرًا صحافيًّا، تبليغًا مسطَّحًا، تقريرًا قانونيًّا،...) يكون النثر فيه مجرد واسطة لبلُوغ المتلقِّي دون عناء الكاتب لتجويد النص أَو "تنْقِيَته". هنا النثرُ وسيلة. حين يروح كاتب ينسج نصًّا أَدبيًّا (قصة، رواية، خواطر، انطباعات وجدانية،...) يكون النثر (بل يجمُلُ أَن يكون) غايةً في ذاته. وإِذا أَشحنا عن النثر كغاية (وهو أَساسًا لا قيمة أَدبيةً له ولا حتى نثرية)، يبقى النثر كغاية موضِع إِشكال. لماذا؟ لأَن معظم الأُدباء يتوسلون النثر وسيلةً أَكثر منه غاية: يأْخذُهم السرد (الرواية، القصة، النقد، المقالة، الدراسة، التعليق، مراجعة الكتب، مقدمات الكتب،...) فيُولُون المضمون اهتمامَهم دون الشكل، كمُحاضرٍ يكتفي بما في دماغه ويأْتي إِلى قاعة المحاضرات بثيابٍ رثّةٍ وحذاء مثقوب وشَعر أَشعث، لا ما في دماغه يصل إِلى الجمهور ولا شكْلُه يقْنع بالإِصغاء إِليه. هل دائمًا يوحي الشكل بالمضمون؟ طبعًا لا. المضمون هو المهم، لكنه يصبح أَهَمَّ حين يلبس شكلًا أَنيقًا. الأَناقة! هذه هي العلامة. لا يكون النص عالي المستوى إِلَّا حين يكون أَنيقًا. عندئذٍ يكون في هالة الأَدب. أَيًّا يكُن الموضوع الذي يعالجه الناثر فلْيعالِجْه بأَناقة، لأَن الأَناقة تَشُدُّ القارئ إِلى المضمون فيبلُغُهُ بهناءة، ومن الهناءة الإِقناع، وفي الإِقناع بلوغُ الكاتب مرماه من النص. ماذا مع الأَناقة؟ الإِيجاز. وما كتبتُه عن الإِيجاز في الشِعر (مقالي الخميس الماضي في "الرياض") أُكرِّره عن الإِيجاز في النثر. نعم: المعنى الأَكثر بالكلمات الأَقلّ، معادلةٌ تجمِّل النثر وتُنقِذه من غُبار الثرثرة. لا يقتُل النصَّ الأَدبيَّ كالغبار على كلماته. ما يريد الناثر التعبير عنه في عشْر كلمات، فلْيُعبِّر عنه بخمس، ولْيَشُدَّ كلماته تجانبًا موسيقيًا فتفرح الجملة ويشعُّ نورُها أَبهى، كوردة نشذِّب الأَشواك والنوافل من حولها ليَبرُزَ تاجُ الوردة بكامل أَناقته. إِنها خصيصةُ عبقرية التركيب لدى الأُدباء الكبار، وما أَندرهُم. وحين نحرر النص من الغبار الثرثار والمفردات والأَدوات النافلة، نكونُ صُغناه بتركيب أَجمل، ونكون نجحنا في تنقية النثر من النثر.