وصلت الكتب التي تحتويها بعض غرف منزلي إلى أكثر من ثلاثين ألف عنوان أو كتاب، وكنت في كل مرة أقف أمام رفوفها التي كانت موزعة في عدة غرف، أسأل نفسي بأسى: متى سوف أقرأ هذه الكتب؟ ومع كل سؤال كانت تزيد الكتب، التي كنت أجلبها غالباً من خمسة معارض دولية في الرياض والقاهرة ودبي وأبو ظبي والكويت، ومن الدول التي كنت أزورها، وفوق ذلك لم يكن يمر أسبوع دون أن ينضم إلى أسرة الكتب وليد أو ضيف جديد. ولم يكبر المأزق الذي عاشته الكتب وعشته معها، إلا عندما قر عزمنا على فراق بيت العائلة الكبير، والانتقال إلى بيت جديد بنصف مساحته، وقس على ذلك محدودية الغرف والمجالس والممرات. هذه الحالة جعلتني كالفقير الذي رزق بمجموعة من الأولاد والبنات، لا يشتكون من اعتلال في الصحة ولا دمامة في الخلقة؛ لكنهم ببساطة يشتكون من ضيق المأوى، وما قد يتبعه من رفاهيات صغيرة. ولم يكن أمامي إزاء ذلك الوضع، إلا البحث عمن يتبنى ما افترضت أنه فائض الكتب، وقد وجدت نفسي كمن يعرض ورقاً أو طعاماً بائتاً؛ فقد رفض هذا الفائض عندما قدمته مجاناً لبعض المكتبات الكبيرة، ولم أجد في النهاية إلا وضع هذا الفائض عند حاويات كانت منتشرة أمام بعض المساجد، ومع كل كرتون أضعه كنت أحس بأنني أفرط في ابن من أبنائي. وأنا في هذه الحالة كنت أسترجع كلام أمي -رحمها الله- والتي كانت من أعداء "الكراكيب"، وقد أصبحت الكتب شيئاً منها. قالت لي أمي قبل رحيلي إلى الرياض: "إيش تسوي بهذه القراطيس؟ داخل بقرطاس وخارج بقرطاس، ليه ما تطشها أول بأول؟" وكان هذا حالها مع كل قطعة أو وجبة فائضة أو ملابس قديمة، كل شيء تنتهي منه تتخلص منه في وقته ودون تردد، حتى أننا عندما ماتت لم نجد شيئاً يذكرنا بها. كانت "كراكيبها" أو تركتها الوحيدة هي "البناجر" أو الأسورة الذهبية، التي أوصت بها لأحد الإخوان، ليتصرف في ثمنها عندما يحول حولها! وحال كتبي أصبحت أنظر إليه الآن كما أنظر لمصير عشرات المكتبات الشخصية الكبيرة التي بيعت في الحراج، لتكون كراتين أو أطباقاً للبيض بعد رحيل أصحابها، وما ينطبق على الكتب ينطبق على ملابس وأجهزة وأثاث تتكدس بها المنازل، ويرفض أصحابها التخلص من قطعة فائضة منها. كان من الممكن أن يفيد الكتاب الذي قرأته هاوياً فقيراً، وقد تفيد قطع الأثاث الفائضة أو القديمة أسراً فقيرة لا تجد ما تؤسس بها منازلها، حتى الملابس الفائضة هناك جمعيات كانت تنشط في جمعها لتوزيعها على المحتاجين خاصة وأن بعضها باهظة الثمن. التخلص من فائض الأشياء يجعل منزلك أو مجلسك مريحاً، خاصة إذا كانت الفائدة من هذا الفائض قد تحققت. لكن السؤال من الشجاع الذي يمتلك الجرأة للتخلص من كتاب يعرف أنه لن يعود لقراءته مرة أخرى؟ ومن السيدة التي تمتلك الجرأة للتخلص من فستان زفافها لتزف به بنتاً فقيرة؟ ومن رب الأسرة الذي يمتلك الجرأة للتخلص من طقم جلوس متهالك، احتفظ به بحجة أنه يذكره بجده أو والده؟!