في أيام الجمع حيث يكون الصمت مريباً بعد الصلاة، وحيث يكون صخب المقاهي شاهدا على فراغ الأيام.. نحاول بكل طريقة أن نكسر حدة الملل.. كنت أدعي دون قناعة كافية بقوة المبررات لدي، أن الحياة تتغير وأن ليس لدينا ما نخسره إن جربنا مقاعد مختلفة وتحسس النبض في أرواحنا بشكل مختلف، وأن نحرك الماء في حياة تكلست.. ماذا عليّ أن أفعل في هذا اليوم؟ أشرب قهوة سوداء وقراءة أخبار معدة منذ الأمس ومعروفة للجميع، لكنها معطلة عن الهدف حتى يقرأها أمثالنا.. الإحساس بالحياة شيئاً فشيئاً يجعلك تشعر بصدمة حقيقية عندما تكشف الحياة عن وجهها الحقيقي أمام الذات، ومن ثم ينتابك الإحساس أن الأيام التي تعيشها مجرد أفعال تشبه بعضها بعضاً من خلال الأعمال المتكررة التي لا تتغير، بل تكون ممارستها نوعا من القهر الواقع على الذات نفسها.. تحركات رتيبة وأفعال لا معنى لها تجعل هروب الفرد من هذا الواقع كهروب الإنسان من ظله.. وتطرح سؤالاً ينتصب كرمح، ماذا يمكن للفرد منا أن يفعل في أيام كهذه حتى ينتهي كل شيء إلى أطياف حقيقية قد تجعل لنهاية الأسبوع معنى! فكرت في إرسال إعلان عبارة عن جملة واحدة «مطلوب أمل»، نصحني أحدهم أن أغير عادتي كأن أعبر شارعاً لم أعتد السير فيه وفي الطريقة التي أرد بها على الهاتف وأن أجرب الجلوس في مقهى آخر غير الذي تعودت الجلوس فيه وأطلب شاهي بالحليب بدلاً من القهوة السوداء من دون سكر التي اعتدت تناولها.. آخر أهداني نصيحة صينية منشؤها تراث صيني قديم «الفينغ شوي»، قال لي إن ذلك ليس من اختراعه، وهي أن تقوم بثورة على التخلص من الكراكيب التي في حياتك بكل أنواعها ولتبدأ بالمادية أولاً، فالتخلص من الأشياء الفائضة عن حاجة الكائن هو نوع من التحرر من «العبودية»، والتي هي من أسباب ضيق الحياة وتقود إلى الملل، وأن ذلك يمد الإنسان بطاقة إيجابية ويساعده على استرداد روحه الضائعة.. ونفذت النصيحة في الحال بدأت بأرشيفي المتراكم وقمت بتصفية ومراجعة أشياء تجمعت لدي منذ سنوات ألقيت بها في حاوية القمامة.. شعرت بارتياح كبير ثم اتجهت إلى خزانة ملابسي، كانت الملابس معلقة مثل الأحرف النائمة في نفق لا ينتهي، اكتشفت وأنا أفند الملابس والأحذية وأشياء أخرى حقيقة طالما أغفلتها النفس الأمارة بالسوء.. لم يكن كل الأشياء التي اقتنيتها لحاجة بل لرغبة في الاستحواذ والتملك، وعلى نحو أخرق لا أكثر، ثم استمررت في فرز مكتبتي والتي كانت تتراكم فيها الكتب كأقلام التلوين الميتة.. حدقت فيها كمحارب قديم يحدق في الغيوم.. احتفظت بأجملها كأنها سر الأسرار واستغنيت عن عدد كبير منها، كأن مدينة للحلم تهدمت وحولتها إلى أطلال، رتبتها في صناديق كالزبد الفائض من محيط عظيم.. قررت أن أهديها لكل من أعرف حتى يقرأوا حكايات قديمة نسجت ذاتها في جدران مكتبتي وخيالي.. نقطة مغادرة لخطوات أخرى جديدة.. كنت أعيش شعوراً خاصاً وأشعر بزهو يراودني كلما أدخلت يدي في بطن خزينة لأتفاجأ بمحتوى هذا المجهول.. في إحدى الخزائن كانت سجادة صلاة أمي وسبحتها البلاستيكية التي تعتز بها لأنها جاءتها هدية من المدينةالمنورة وشرشف الصلاة الأخضر اللون.. عبق خاص جرفني وأنا أتحسس ملمس السجادة، جرني الحنين لحضنها أتتني رائحتها رائحة المسك.. شعور يشق الروح إلى شقين، شق ملتاع وشق ملهوف في قلبي يحن إليها.. هل هناك بعيدون في حياتك؟ لا أعرف ماذا أفعل بكل هذا الحزن الذي احتل مساحات دمي في هذه اللحظات بالذات.. بكاء حار أشعر به كأنه ينحت وجنتي.. أكملت ما كنت فيه مستمتعاً بما فعلت شعرت بأنني فعلاً تخلصت من عبودية الكراكيب وغريزة الاستحواذ والتملك نوعاً من الاعتراف الذي لا ينقصه الصدق.. لم يعد يهمني إلا أن أعيش كما أنا.. أزهو بتصالحي مع نفسي أتأمل الزمن على جبيني وأحتفل بأيامي القادمة الملونة.. خفيفاً طليقاً.. دون أمتعة إضافية لا حاجة لي بها.. أدرب ذاكرتي على أيامي القادمة المضيئة المليئة بذكر الله، وبالحرية والمحبة والحلم، أتوحد مع الأشياء البسيطة أمامي ولا أعبأ إلا بمساحة مسيجة بالأصدقاء وبزهر البنفسج، ادعوا لي وللآخرين أن يكونوا كما يريدون يعيدون اكتشاف شعور الحب دون خوف باتجاه الحياة وباتجاه أنفسهم وعاطفتهم وإرادتهم، ويصلون إلى أفضل التجارب في حياتهم.. يطردون الخوف الذي أفسد حياتهم يستعيدونه منه.. ما زلت اتساءل ماذا أريد؟ أظن أن الدنيا باتساعها لم تكن تكفيني، وأني أحتاج إلى كوكب جديد أعيش فيه وأرسم بطبشورة الحرية دائرة مفتوحة ! من لديه هذه الطبشورة فليتبعني نحو الحلقات المفتوحة.. نحو البحر والسماء وصحراء مهووسة بالهواء الطلق! ff_99888@ [email protected]