للمكتبات مع أصحابها قصصٌ ومواقف، وأيضاً طرائف وأشجان تستحق أن تروى، "الرياض" تزور مكتبات مجموعة من المثقفين، تستحث ذاكرة البدايات، وتتبع شغف جمع أثمن الممتلكات، ومراحل تكوين المكتبات.. في هذا الحوار الكُتبي نستضيف د. رانية العرضاوي دكتوراه في فلسفة النقد والأدب العربي، وأستاذ النقد والأدب المُشارك، وباحثة في قضايا الفكر والإبداع والفلسفة للحديث حول مكتبتها التي تحتوي ما يفوق (60) ألف كتاب ومجلد يغلب عليها علوم التفسير والحديث، واللغة العربية وآدابها، والمعاجم، والسير، والتاريخ، والفلسفة والترجمة ومختلف العلوم الإنسانية والمعارف العامة والطبيعيات والأديان، إضافة إلى المجلات والدوريات الثقافية والمتخصصة باللغتين العربية والإنجليزية. أنسى نقودي في بطون الكُتب * في أيِّ مرحلة من العمر تعرَّفتِ على الكتاب؟ * معرفتي بالكتاب بدأت مع وعيي بالقراءة والكتابة منذ الطفولة، وذلك من خلال اهتمام الوالد -رحمه الله- بالكتاب، فأبي كانت لديه مكتبته في البيت وعلى صغرها لكنها كانت ركناً مصاحباً للطفولة، ولا أذكر أنّ بيتنا خلا من الكُتب يوماً. * هل تستطيعين تحديد بعض بدايات تأسيس مكتبتكِ المنزليَّة؟ * شعرت بحاجتي لمكتبتي الخاصة عندما كنت في المرحلة الابتدائية تقريباً، إذ بدأت باقتناء كُتبي الخاصة، وصرت أجمعها على رفوف في غرفتي التي كنت أشاركها مع أخواتي، وكنا نتبادل قراءة القصص والروايات ونجتمع على قراءة المجلات المصورة مثل مجلة «ماجد»، وكان لأخي الشيخ أحمد مكتبته التي كنت أرى فيها النموذج الذي أريد أن أحاكيه خاصة عندما لاحظت اهتمامه وعنايته بكتب الحديث الشريف، وأن يصير لي ركني وكتبي. وأذكر جيداً أنّ الكتاب الأول الذي قرأته كاملاً كان حول الفلك والكواكب، وفرحت جداً بقدرتي على قراءته كاملاً، ومنه توالت الأسئلة في ذهني عن الكون والإنسان في نطاق عمري آنذاك. وكانت قراءة هذا الكتاب في حينها إنجازي وأنا في الصف ربما الرابع أو الخامس الابتدائي. وبدأت أفكر بأن لابد أن تكون لي مكتبة، أجمع فيها الكُتب التي قرأتها لأعود إليها بين الفينة والأخرى. ولما غدت الكُتب عندي مجموعة تستوجب خزانة خاصة بها صارت لدي مكتبة صغيرة، بدأت بالتنامي والاتساع مع سنوات الدراسة، وكان لي مطمع كبير في حيازة كُتب والدي -رحمه الله- خاصة بعد وفاته وقد تم لي ذلك ولله الحمد. * ماذا عن معارض الكُتب، ودورها في إثراء مكتبتك؟ * يمكنني الزعم بأنّ معارض الكُتب هي من أهم مصادر كتبي، وهي بالنسبة لأي مهتم بالمعرفة والعلم فرصة قيمة جداً، ليس فقط لاقتناء الكُتب بل أيضاً للقاء الناشرين والولوج إلى عالم الكُتب الشاسع الذي لن تكتشفه إلا من خلال المشي بين أروقة معارض الكُتب. لقاء الكتاب والمبدعين وكذلك سرّاق المعرفة الذين ربما روجوا لكتاب تجاري بقصد الكسب السريع يباغتك بأسراره في كل مرة تزور المعرض. وأعتقد أن زيارة معارض الكتاب النافعة لا تكون إلا بعد إتمام على الأقل خمس زيارات للمعرض الواحد في الموسم الواحد. وفي الفترة الأخيرة خاصة قبل الجائحة، حرصت على اصطحاب طالباتي معي إلى معارض الكُتب ما أمكن، ليكون الاكتشاف جماعياً للكتب والمكتبيين، ووجدت في ذلك نفعاً كبيراً عندما كنت أراقب اختياراتهن وطريقة بحثهن عن المعرفة، لأطور من أدوات اختياراتي أنا أيضاً بما يعمّق أثر التعلّم المتبادل بيننا. * ما أبرز المنعطفات التي رافقت نموَّ مكتبتكِ الشَّخصيَّة؟ * حقيقة المنعطف الأكبر هو دخولي قسم اللغة العربية وآدابها، فبه بدأت أبحث عن الكُتب التي تخدم هذا التخصّص العظيم، وعندها اكتشفت بأن القراءة في المعرفة الإنسانية باختلاف مساراتها وتنوعاتها هي ما يقوي متخصّص دارس اللغة العربية، وليس فقط قراءة كُتب التخصّص، وعندها اتجهت إلى القراءة الأفقية في المعارف والفلسفة مع القراءة العمودية في كُتب التخصّص. ثم المنعطف الثاني عندما بدأت الفلسفة تجذبني أكثر وأكثر، واكتشفت دورها المهم في تكوين الناقد الأدبي، وصار الوصول لكُتب الفلسفة مقصداً أساسياً في مسيرة قراءتي، ولا أخفيك أن هذا استغرق جهداً مضاعفاً للحصول على كُتب الفلسفة قبل سنوات، وزاد من ضرورة زيادة زمن القراءة الذي أمنحه لكتبي من يومي. حدثينا عن أوائل الكُتب التي دخلت مكتبتك؟ أذكر جيداً حرصي على اقتناء كُتب العقاد والمنفلوطي والرافعي وكُتب تفسير القرآن الكريم ومفردات غريب القرآن للأصبهاني، ثم معجم لسان العرب الذي عند اقتنائه غمرتني السعادة والانبهار بمجلداته المرصوفة أمام عيني، وكنت أنفق وقتاً طويلاً في قراءته بشكل عشوائي أملاً في تغذية معجمي الكلامي، وأيضا كُتب الجاحظ التي فتحت لي أبواب عالم واسع من القصص والحكايات الخلابة والإشارات العلمية والفلسفية العميقة، ودواوين الشعر القديم خاصة ديوان المتنبي والمعري والشريف الرضي. * هل تحتفظين في مكتبتكِ بمخطوطات؟ * نعم، فقد مُنحت من أسرتي الكريمة مخطوطة هي مصحف كريم كتبه جدنا الثاني محمد علي العرضاوي -رحمه الله-، وهي مخطوطة عمرها تقريباً 140 سنة، ولعلها عادة قديمة كانت في تلك الفترة بأن يكتب الرجل المصحف بخطه ليكون صدقة جارية له. ويوجد في الأسرة مخطوطة أخرى لكتاب الموطأ كتبها كذلك جدنا محمد علي العرضاوي -رحمه الله- ويحتفظ بها أخي الشيخ أحمد، وبها سند نسب الأسرة. * ماذا عن نصيب الكُتب القديمة والنَّادرة؟ * يوجد لديّ مجموعة طيبة منها، أذكر منها نسخة قديمة لكتاب الموسيقى الكبير للفارابي حزتها من الأزبكية، وكتاب الغصن الذهبي لجيمس فريزر طبعة حلب حزتها من مزاد للكُتب القديمة في مدينة درم، وهي نسخة نادرة من الكتاب. وكذلك الموسوعة الإسلامية للمستشرقين. * هل لديكِ شيءٌ من الصُّحف والمجلات القديمة أو شبه القديمة؟ * نعم، وبعضها من مكتبة الوالد -رحمه الله-، كأعداد قديمة من مجلة المنهل والعربي وبعضها اشتريته من الأزبكية مثل مجلة فصول في النقد الأدبي. * ما أطرف المواقف التي حصلت لكِ في البحث عن الكُتب؟ * أذكر أنني مرة أوصيت عدداً من الأشخاص في أماكن متفرقة للبحث عن كتاب أريده للضرورة، فوصلتني منه ثلاث نسخ في وقت واحد، وكل نسخة عليها إهداء من المرسل، مما اضطرني إلى الاحتفاظ بثلاثتها. ولا تتعجب إن رأيت في مكتبتي بعض النسخ المكررة من الكُتب، فتكون نسخة للتدريس ونسخة للقراءة، ونسخة لتدوين ملحوظاتي الخاصة على الكتاب بغرض البحث، وكذلك لدي عادة غريبة مع الكُتب، فأنا أترك نقوداً دائماً في بطون الكُتب، خاصة إن كنت على عجلة، فلست ممن يحب حمل محافظ النقود، وهو ما يضطرني مرات لوضع باقي النقود في بطن الكتاب الذي بحقيبتي، وفي مرة من مرات ترتيب مكتبتي وجدت في أحد كتبي مبلغاً مالياً يقارب ألفي ريال، وكنت قد نسيت في أي كتاب وضعته، ولازلت أبحث عن شيك مصرفي وضعته في كتاب اشتريته من معرض الكتاب الأخير بالرياض لا أذكره حتى اللحظة. ولا أنسى أنني مرة في زيارتي لدار نشر بمعرض جدة للكتاب قبل سنوات، انبهرت بالكُتب ونسيت نفسي وافترشت الأرض أمام الرفوف، وبقيت أقرأ ما يقارب النصف ساعة حتى تقدّم مني المكتبي الذي كان في أدب وخلق حسن يتقلب، ويشعر بالحرج من جلوسي على الأرض، وقال لي: يمكنك الجلوس على الكرسي يا سيدتي، فانتبهت إلى أن عباءتي قد غرقت في تراب الأرض وطرفها تزين بآثار أقدام المارة الذين داسوا عليها دون قصد. قمت ضاحكة على مضض وأنا أنفض عني تراب الباحثين عن المعرفة، واعتذرت منه بشراء مجموعة كبيرة من الكُتب التي سحرت تنبّهي. * بما أنكِ مُهتمة بالكُتب ولديكِ مكتبة خاصة، ما أبرز الكُتب التي تحرصين على قراءتها؟ * مع أعباء العمل والتزاماته أحرص على قراءة كتاب كل أسبوع ومرات كل أسبوعين، وعادة ما يوجهني إلى اختيار الكتاب أمران: حاجتي البحثية، ومزاجي القرائي، فالكُتب هي «عيادتي» التي تلملم شتات نفسي وسط ضجيج اليومي. ولا أخفيك حديثاً، أنا أقرأ بشكل دائري، بمعنى أنني أطوف بين عدة كتب في وقت واحد، وبدون ترتيب للتطواف، وهذه الطريقة تضمن لي قضاء عدة كتب في وقت أقصر، لكنها احتاجت مني إلى دُربة طويلة. * ماذا تُفضلين.. المكتبة الإلكترونية أم الورقية؟ وما السبب؟ * المكتبة الإلكترونية اليوم ضرورة وعون لإتمام العمل والبحث، وتوفر جهداً ومالاً ووقتاً، لكني رغم ذلك أفضل المكتبة الورقية، فرائحة الورق، وملمس الكتاب، ووجوده رفيقاً دائماً يقوي تلك الوشيجة بيني وبين العلم، ويزيد من رغبتي في القراءة، ولا أنسى وصية أستاذتي د. مريم البغدادي لي في مرحلة البكالوريوس بأن لا أنام إلا وجواري كتاب، وقد وجدت في هذه الوصية نفعاً كبيراً، فما يقرأ قبل النوم لا ينسى، وكذلك ما يقرأ صباحاً لا يصعب فهمه. * هل مكتبتك متخصصة أو متنوّعة؟ * متنوعة جداً، وهو ما يجعل زوّاري دائماً في تساؤل، لماذا تقرئين هذا وذاك، ويكون جوابي لأنّ التخصصية بدون مساندة الموسوعية تكون عجماء، تردد ما ترث، وتعجز عن التكوين الجديد للمعرفة، فلا يكفي في رأيي أن يقرأ المتخصص في تخصصه فقط، بل هو بحاجة ماسة للمعرفة العامة الأفقية التي تعطيه مفاتح بحثية جديدة لفهم تخصصه نفسه. ولكني حريصة جداً على اقتناء كُتب التخصص سواء ما كان من كنوز التراث أو أطروحات العصر. * كلمة أخيرة؟ * شكراً جزيلاً لهذه المساحة التي وهبتني إياها صحيفة «الرياض»، ولك الشكر الخاص والتقدير أ. بكر هذال لحرصك وصبرك. وربما أوجز في أن أقول بأنّ وجود المكتبة في البيت نعمة جليلة، أثبتت الحقب الزمنية المختلفة بأنها ضرورة وليست ترفاً، وأثرها الإيجابي على الأسرة وخلق العقل المفكر أمر حقيقي، وبها يكون بناء منظومة معرفية وتثقيفية لكل أفراد الأسرة، تعينهم على اجتياز مصاعب الحياة بسلام وترك أثر من نور، وكم من مكتبة منزلية أخرجت عالماً عظيماً نفع العالم وساهم في بناء الحضارة. د. رانية العرضاوي بعض الموسوعات بالمكتبة مخطوط للمصحف الشريف كتبه الشيخ محمد العرضاوي