وُلد عبدالله بن محمد بن بليهد في "بلدة الشعراء" التابعة لمحافظة الدوادمي، وكان والده الأديب المؤرخ محمد بن بليهد سكن هذه البلدة مدة من الزمن، وكان يتنقل بين القرائن والشعراء والحجاز، وفي "بلدة الشعراء" نشأ عبدالله مع والده ووالدته وبقية الأسرة وعاش في بيت علم وأدب وشعر، وكان منزل والده حافل بالزوار والضيوف والرواة من أهل البادية والحاضرة ومن الشعراء، وأحياناً تُقرأ فيه بعض كتب الأدب والشعر، فكان مجلس المؤرخ ابن بليهد منتدى أدبي يومي، ونشأ عبدالله في هذا الجو حياة هادئة في رغدِ من العيش وفي هذه الأجواء، وبالأخص أن والده واحد من علماء الجغرافيا التاريخية ومن المثقفين القراء المتعلمين آنذاك، فلا بد أن يشجع أولاده على التعليم. يقول عبدالله البليهد متحدثاً عن أبجديات تعليمه في حياته: "إنه تعلم أولاً في الكتاتيب عند مقرئ البلدة في الشعراء، وكان اسمه عبدالرحمن بن عبد اللطيف ثم المعلم عبدالرحمن بن صالح الجنيدل، فتعلم عندهما القرآن الكريم ومبادئ العلوم الشرعية"، ولما افتتحت أول مدرسة في الشعراء انضم في هذه المدرسة مع بقية أبناء الأهالي. والجدير بالذكر أن المؤرخ الأديب محمد بن بليهد هو الذي بنى هذه المدرسة في الشعراء كما تحدث بذلك عبدالله، ولو لم يكن المؤرخ محمد بن بليهد حريصاً ومهتماً وعارفاً بأهمية التعليم الحديث النظامي آنذاك لما بادر -رحمه الله- بتشييد أول مدرسة نظامية في الشعراء، لذلك عاش عبدالله بن بليهد في جو يسوده التعليم والعلم بين منزل الوالد المثقف الواعي وبين تلقي التعليم في هذه المدرسة. أول دفعة من هذه المدرسة الأولى في حياة عبدالله بن بليهد بدأت المراحل التالية في التعليم النظامي الحديث، فهذه الدفعة من خريجي مدرسة الشعراء الابتدائية هي أول دفعة من أبناء هذه البلدة كان فيها عبدالله، وحيث إنه ليس في الشعراء مدرسة للمرحلة الإعدادية يقول عبدالله: «وانتقلت بعدها إلى الدوادمي حيث أكملت المتوسطة واستقريت بالدوادمي وفي الإجازات أرجع إلى بلدة الشعراء حيث الأهل»، ولم تكن في المنطقة مدرسة ثانوية وقد سافر عبدالله بن بليهد إلى جدة حيث «ثانوية الشاطئ» وتخرج منها وكان من الأوائل. ويذكر ابن بليهد أنه في مرحلة الشباب عندما تخرج من الكفاءة المتوسطة تعيّن عليه تعبئة استمارة الشهادة، ولابد من وضع صورة شخصية لهذه الاستمارة، والدوادمي لا يوجد بها «أستوديو» للتصوير، إذ لا بد من السفر إلى الرياض لأجل التصوير، فذهب هو وزملاؤه على سيارة استأجروها واتجهوا إلى الرياض ثم رجعوا إلى الدوادمي مرةً أخرى، كل هذا لأجل التصوير، مبيناً أنه اشترى سيارة «فلوكس واجن» بالتقسيط لما استقر بالرياض، حينما كان مديراً عاماً للتخطيط والميزانية بوزارة المعارف، والسيارة لا زالت موجودة ويحتفظ بها. دراسة أمريكا وكان الابتعاث إلى خارج المملكة من أوليات الدولة آنذاك، وكانت وزارة المعارف هي الجهة المسؤولة عن الابتعاث للطلاب المتخرجين من الثانويات، وقد رشح عبدالله بن بليهد للدراسة في أمريكا، ويذكر عن دراسته في أمريكا ودراسته للغة الإنجليزية قبل الالتحاق بالجامعة، حيث انضم إلى جامعة «ماريلاند كولج بارك» القريبة من واشنطن، وقد أكمل الدراسة في هذه الجامعة ثم عاد إلى أرض الوطن يخدم وطنه، وتم لقاؤه بالأديب الخطيب حسن بن عبدالله آل الشيخ -رحمه الله- وكان وقتها وزير المعارف فاقترح على عبدالله بن بليهد أن ينال درجة الماجستير في أمريكا، وفعلاً درس هناك في الجامعة الأمريكية في واشنطن، ثم عاد إلى الوطن مرة أخرى، فكان مقترحاً موفقاً من حسن آل الشيخ لهذا الشاب الواعد، وآل الشيخ دعم الشباب في تطوير ذواتهم من حيث التعليم ولا يبخل بكل مساعدة وله مواقف مشهورة مع كل من لجأ إليه طالباً دعمه وعونه، هذا فضلاً عن مكارم أخلاقه التي اشتهرت عنه. وتسلم عبدالله بن بليهد عدة إدارات بوزارة المعارف آخرها مديراً عاماً للتخطيط والميزانية، وبقي في هذه الإدارة ثلاثة أعوام، وهذه كانت أول عمل ميداني في عالم الوظيفة الحكومية، وأول تجربة إدارية في وزارة المعارف وقد اكتسب خبرة إدارية جيدة. إمارة الرياض وتحدث عبدالله بن بليهد في اللقاء الذي أجريته معه قائلاً: «إن حسن آل الشيخ أخبره أن الملك سلمان -عندما كان أميراً للرياض- طلبه لمقابلته، وأنه يرغب في نقلي للعمل معه في إمارة منطقة الرياض، وبعدها قابلت الملك سلمان بحضور صاحب السمو الملكي الأمير سطام بن عبدالعزيز -رحمه الله- وكان وقتها وكيل إمارة منطقة الرياض، وبعدها بدأت العمل في الإمارة من ذلك الوقت». وذكر ابن بليهد عن تجربته الإدارية في إمارة منطقة الرياض قائلاً: «عملت في إمارة منطقة الرياض أربعين عاماً تحت إدارة الملك سلمان -حفظه الله- عندما كان أميراً على منطقة الرياض، بدأت في مدرسته من مدير عام ثم ترقيت إلى وكيل مساعد، وبعدها وصلت إلى مرتبة وكيل بالمرتبة الخامسة عشرة، بعدها مستشاراً بالمرتبة الممتازة. وفي ذاكرة ابن بليهد الكثير من الذكريات والمواقف خلال الأربعين عاماً، أربعة عقود من الزمن، تغيرت أشياء كثيرة من حيث الأنظمة الإدارية، وهو شاهد عصر على إمارة منطقة الرياض، وهنا يلخص هذه الدروس متحدثاً عن استفادته بالقرب من الملك سلمان فيقول: تعلمت منه الكثير بسبب قربي منه فهو شخصية فريدة من نوعها تأثرت بها أثناء فترة عملي معه. دروس عملية ومن ذكريات عبدالله بن بليهد في إمارة منطقة الرياض أنه تعلم من الملك سلمان الالتزام والإنجاز والاهتمام بالمواطنين والمراجعين والحرص على إنهاء العمل بالشكل المطلوب بما لا يخالف الأنظمة والقوانين، فشخصية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان فيها الكثير من الحكمة وبُعد النظر والفراسة، ذاكراً البرنامج اليومي للملك سلمان في إمارة الرياض من خلال الحضور الساعة الثامنة صباحاً، ليفتتح جلسة عامة للمواطنين ويستمع لطلباتهم إلى أن تنتهى، ثم يدخل مكتبه لمتابعة وإنهاء العمل المطلوب، فكان حريصاً جداً، وبعض الأعمال يتابعها بنفسه حتى ينتهي منها، وبعد صلاة الظهر يفتح جلسة ثانية للمراجعين ويسمع لهم ويطلع على معاريضهم ويشرح عليها ويرسلها لي أو للمسؤولين الآخرين إمّا للدراسة والإفادة أو اتخاذ الإجراء اللازم والإنهاء، وبعد نهاية العمل يسألنا إن كان هناك عمل تبقى، فهو لا يخرج من الإمارة إلاّ بعد أن يتأكد أن العمل انتهى؛ لأنه لا يحب تأجيل عمل اليوم إلى الغد. التزام وعطاء ومن ذاكرة عبدالله بن بليهد إبان عمله مع خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في إمارة منطقة الرياض تحدث قائلاً: في الأزمات كان -حفظه الله- لا يترك الإمارة، يبقى فيها ليلاً ونهاراً وينام فيها ونحن معه، مثال ذلك حادثة جهيمان في الحرم وحرب الخليج يتابعها من مقر عمله في إمارة منطقة الرياض، وقد شكّل عمليات داخل الإمارة، مؤكداً استفادته من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان، فهو مدرسة تعلم منها الصبر والحكمة وسرعة الإنجاز والالتزام والعطاء، مضيفاً: «قضيت معه 40 عاماً كانت من أجمل مراحل حياتي، تشرفت بها بالعمل تحت إدارته، والتي كانت فرصة لي أن أقوم بخدمة الناس وحل مشاكلهم وتلبية احتياجاتهم وساعدتهم بما أستطيع، فالمناصب وضعت لخدمة الوطن والمواطن وولاة أمرنا هم قدوتنا -حفظهم الله-». جهد ووقت وأوضح عبدالله بن بليهد أن الملك سلمان -حفظه الله- اهتم بنهضة مدينة الرياض من حيث تطويرها في مجالات مختلفة كالطرق والمشاريع الأخرى، كان مسيرة عطاء لا تتوقف، والرياض تعني له الكثير، فهي الماضي والحاضر والمستقبل، ويمتد هذا أيضاً لباقي مناطق المملكة، لكن الرياض تميزت بأنه أميرها وقائد نهضتها، فقد أولاها كثيراً من الجهد والوقت والاهتمام، فهو صاحب رؤية تنموية واقتصادية، كما كان له دور في المجال الاجتماعي والعمل الخيري والمبادرات الإنسانية، وكان إنشاء هيئة تطوير الرياض المنطلق لمشاريع التحسين والتجميل والطرق والمرافق، وبحكم اهتمام خادم الحرمين الملك سلمان نجحت هيئة تطوير الرياض في تحقيق تطور مذهل لهذه المدينة من جميع الجوانب، وأصبحت تتميز بالطرق السريعة والأنفاق والجسور وغيرها من التطور الحديث، مضيفاً: «وفي هذه الأيام أكمل صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع هذه النهضة الحديثة للعاصمة الرياض، وباقي مدن المملكة، من تطوير وتحديث وتنمية وإنجازات في خلال مدة وجيزة وقصيرة جداً -أسأل الله له التوفيق والسداد-». تأثر بوالده وروى عبدالله بن بليهد ذكرياته وأيامه مع والده المؤرخ محمد بن بليهد قائلاً: في صغري كنت أحضر مجالس الوالد التي يحضرها الأدباء والعلماء، وتعلمت منها الكثير في الأدب واللغة العربية، وأيضاً لديه مكتبة أقرأ منها بعض الكتب في الأدب والشعر وغيرها، لقد تأثرت بوالدي وتعلمت منه الكثير من خلال فكره وثقافته وعلمه، وكذلك بعض صفاته، فهو شاعر وأديب ومؤرخ، ولديه عدة مؤلفات أشهرها (صحيح الأخبار) -خمسة أجزاء- و(ديوان ابتسامات الأيام في انتصارات الإمام)، و(بقايا الابتسامات)، وحقق صفة جزيرة العرب للهمداني وكتابه (ما تقارب سماعه وتباينت أمكنته وبقاعه)، وهو من حدد موقع عكاظ التاريخي بناء على توجيه من الملك فيصل، وقد ذكر في كتابه (صحيح الأخبار) أنه بدأ في البحث عن سوق عكاظ من 1355ه حتى 1369ه، وقد وضع خارطة للسوق في كتابه هذا لعلها من أوائل الخرائط لهذا السوق التاريخي العريق، وكان محمد بن بليهد من رجال الملك عبدالعزيز وحضر غزوات معه، وقد استلم مالية الطائف مدة من الزمن، وهو جليس وصديق شخصي للملك فيصل -رحمه الله-. صحيح الأخبار وقال عبدالله بن بليهد: حظيت الجزيرة العربية باهتمام الباحثين والدارسين، إذ إنها منبع الفصاحة ومصدر الإلهام لكثير من الشعراء الذين وقفوا على أطلالها وناجوا شعابها ووديانها وجبالها وخلدوا في شعرهم كثيراً من معالمها، غير أن كثيراً مما كتبه الأقدمون عنها كان لا يخلو من نقص، لذا فعندما قام والدي -رحمه الله- بإصدار كتابه (صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار) ذلك الكتاب الذي اعتمد فيه في تحديده للمواضع، بالإضافة إلى المؤلفين الثقات، على الدراسة الميدانية وذهب في التحقق بعيداً، مما كلفه الكثير من الجهد، وهو جهد لا استرسل في الحديث عنه وإنما أدع الحديث عنه لغيري. وأضاف: «وللمنهج الذي سار عليه المؤلف استقبل الكتاب من القراء بتشجيع وإقبال كبيرين، ولم يمض إلاّ وقت يسير حتى نفدت الكمية المطبوعة وتوالت علينا الطلبات من القراء الكرام لاقتناء نسخ منه مما اضطرنا إلى إعطاء الكمية القليلة التي كنا قد احتفظنا بها لأنفسنا ثم لم نجد أخيراً من الاعتذار، ولقد كان ذلك الإقبال الذي نعتز به والتشجيع الذي نشكره ونقدره خير ثمن تقاضاه مؤلف الكتاب مقابل ما بذله من جهود في تأليفه، ومنذ ذلك الحين عقدت العزم على أن أعيد طبع الكتاب تلبية لرغبة القراء الكرام ورأيت أن يزود بخرائط جغرافية تحدد المواضع المهمة التي يتناولها بجانب بعض الإضافات الأخرى ليكون النفع أعم والفائدة أشمل وأكبر، ولكن ظروفاً دراسية -آنذاك- وطبيعة العمل بعد ذلك حالا بيني وبين ما أريد ووجدت أنني أمام أحد أمرين، فإما أن أؤجل صدور الطبعة الثانية حتى استكمال ما نوهت عنه وهذا قد يكون سبباً في تأخرها بعض الوقت، وإما أن نعيد طبع الكتاب كما هو على أن ينفذ ما ارتأيته من إضافات في الطبعة الثالثة». وقال عبدالله بن بليهد: «أخيراً وأمام اهتمام الملك فيصل -رحمه الله– بإعادة طبع الكتاب وأمام الاهتمام الكبير من الملك سلمان -عندما كان أميراً لمنطقة الرياض- واستجابة للإلحاح المتواصل من القراء الكرام لم نجد بداً من الإسراع في طبع الكتاب كما هو، وإنني إذ أضع الكتاب في طبعته الثانية بين يدي القارئ الكريم لأجدد الوعد بتنفيذ ما نوهت عنه من إضافات في الطبعة الثالثة -إن شاء الله– شاكراً للقراء الكرام اهتمامهم وتشجيعهم، والله ولي التوفيق -انتهى كلام ابن بليهد من مقدمة كتاب صحيح الأخبار»-. خدمة الوطن هذه سيرة ومسيرة عبدالله بن بليهد الذي منحني شيئاً من وقته، سرد بعض ذكرياته، وأعتقد أن الكثير من الناس الذين قابلوا ابن بليهد في مكتبه في إمارة منطقة الرياض لدى كل واحد منهم قصة أو موقف وانطباع وشعور إيجابي نحو شخصيته، فهو كان يستقبل المواطنين واحداً بعد آخر على اختلاف طبقاتهم، كان همه خدمة المواطن وقضاء حاجات الناس صغيرة كانت أو كبيرة على حسب الأنظمة، وكما قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: «خير الناس أنفعهم للناس»، وكما قال ابن بليهد: «المناصب وضعت لخدمة الوطن والمواطن، وقد حقق هذا الشعار طيلة 40 عاماً وهو في إمارة منطقة الرياض». عبدالله بن بليهد في مكتبه عبدالله بن بليهد في شبابه محمد بن بليهد والد عبدالله مجلس محمد بن بليهد وفيه التقى بالشعراء والرواة إعداد- صلاح الزامل