* لكلِّ إنسان واعٍ دورهُ المؤثرُ في نسيج الحياة وخلايا المجتمع.. ينبثقُ من إحساسه العميق بمسؤوليته وواجبه نحو مجتمعه ووطنه وأمته. ولا بُدَّ لأيِّ إنسان يستفيدُ من المخزون العلميِّ والفكريِّ أن يُخلصَ في عطائه وانتمائه لما يستشعرهُ في نفسه من جدوى الثّمار التي اقتطفها وامتزجتْ في خلاياه وثقّفتْ رؤاهُ وإمكاناته فآثرَ أن يبذُلَ خلاصة تجاربه ألقاً وإنتاجاً يُفيدُ الآخرين ويضيف شيئاً ذا بال. إن شخصيتنا من أولئك الرجال الشاعرين بمسؤوليتهم في الحياة. قرأ وارتحل، وعانى، وخاض تجارب عميقة اكتسب منها رؤى وقناعات وصوراً عبّرَ عنها بأسلوبه وصبره وتفكيره وبحثه فوفقه الله إلى تحقيق أعمال أفادت مجتمعه. * إنه الباحث المؤرخ الشيخ محمد بن عبدالله البليهد. * وُلدَ محمد بن عبدالله البليهد في بلدة «غسْله» بإقليم الوشْم أحد أقاليم نجد عام 1310ه وتلقى تعليمهُ بها، وحفظ القرآن الكريم. * كان عاشقاً للقراءة منذُ صغره حيث قرأ في المصادر التاريخية واللّغوية والأدبيّة.. وكان مُولعاً بسماع الشعر وقراءته ونظم المعارضات الشعرية في البداية.. مما مكنه من استيعاب تجلياتها والاستفادة من رواية الرُّواة والرَّحالة فانطلق في آفاق المواقع التاريخية والجغرافية يتأمل ويسجل ويصغي ويقرأ حتى تكوّنت لديه خيوط نسيج التوثيق والبحث والتدوين لخدمة وطنه وأمته. عن هذا الجانب التوثيقي للمواقع الجغرافية يتحدث أحد رجال التربية والتعليم الأستاذ الباحث سعد بن عبدالله الجنيدل وهو من أصدقاء الشيخ الباحث محمد بن بليهد.. يقول عنه:(1) (الحديث عن الأديب محمد بن عبدالله بن بليهد حديث طويل له جوانب متشعبة سواء تحدثنا عن الجانب الأدبي أو عن الجانب العلمي، الجانب الأدبي الشعر وما يتعلق به من نقد وغيره. أو عن الجانب العلمي الذي هو علم التاريخ والجغرافيا وعلم الأنساب وعن أخبار القبائل. فهذه كلها من المعلومات التي كان محمد بن بليهد رحمه الله عالماً فيها ومهتماً بها. وكان من ثمرة علمه تأليف كتابه (صحيح الأخبار) هذا الكتاب الذي جمع بين مادة الجغرافيا التاريخية والتاريخ، فالكتاب يتكون من جانبين: جانب دراسة المواضع الجغرافية في الجزيرة العربية، والجانب الآخر جانب التاريخ الذي تحدث فيه عن أحداث الجزيرة العربية في ما قبل حُكم الملك عبدالعزيز رحمه الله، ولا سيما الأحداث التي وقعت، فإذا نظرنا إلى أهمية كتابه من الناحية الجغرافية فإنه لن يفوتنا النظر إليه من الجانب التاريخي، لأن الجانب التاريخي الذي احتواه هذا الكتاب لو لم يؤلفه محمد بن بليهد فيرصده في كتابه ذلك الوقت لم يكتب. لأن المصادر التي اعتمد عليها محمد بن بليهد في أخبار القبائل وما دار في نجد كلها مصادر شفوية. والرواة الذين أخذ عنهم والذين يمكن أن يؤخذ عنهم سواءهم أو غيرهم لم يبق منهم على ظهر الحياة أحد، لأنهم كانوا كلهم من كبار السن الذين أدرك بعضهم هذه الأحداث بنفسه وبعضهم روى عنها وتحدث عنها. فهو جانب مهم من جوانب التاريخ. ومحمد بن بليهد رحمه الله قبل أن يبدأ في كتابه (صحيح الأخبار) عمل تجارب شخصية على تأليف هذا الكتاب والإقدام عليه في وقت يصعب أن يقدم عليه غيره، ذلك لصعوبة وقلة المراجع التي تفيد بهذا الغرض، ولصعوبة المواصلات ولسعة جزيرة العرب وكثرة المسميات فيها. فهو رحمه الله ألف كتاباً صغيراً عن عكاظ، لقي هذا الكتاب قبولاً عند الباحثين والقراء، فشجعه ذلك ثم كتب مذكرة موجزة عن مواضع المعلقات العشر وحدها ونشر منها ما نشر في الكتب، وقرئت فلقيت كذلك ترحيباً وتشجعياً من القراء والباحثين. كانت هذه التجارب بمثابة دافع له ليقدم على مثل هذا العمل الجليل الواسع الذي كان له فضل السبق في العصر الحديث في البدء فيها فبدأ فيه، وهناك رواسب أي مصادر لإعانته، وكان رحمه الله يتمتع بمركز اجتماعي ممتاز، واحترام من الجميع، وكان لديه بعض مراجع محدودة. (معجم البلدان) لياقوت الحموي هو الكتاب الذي اعتمد عليه كثيراً عند نسخه أمّا (صفة جزيرة العرب للهمداني) فلم يحصل عليه إلاّ في وقت متأخر. * ومن معاصري ابن بليهد الشاعرُ الباحث خالد الفرج رحمه الله الذي يقولُ عنه وعن كتابه «صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار»: (لم يكتب عن جزيرة العرب أحدٌ من أبنائها إلاّ الهمداني صاحبُ كتاب «صفة جزيرة العرب» وقد انقضت على وفاته ألفُ سنة كتب فيها الكثيرون عن جزيرة العرب ومواضعها ومياهها وجبالها لكن هذا الكثير لا يشفي غُلّةً، ولا يهدي الباحث إلى سبيل قويم لأن مؤلفي تلك الكتب ليسوا من أبناء الجزيرة ولا يعرفون عنها إلاّ تلك الرِّوايات المعتادة المتناقضة والآن أمامنا سفرٌ نفيس ناطق بالجهود العظيمة والدَّأب والتنقيب التي بذلها مؤلفٌ عاش في قلب الجزيرة، وجاس خلالها سنين طويلة فخبرها خبرة الدليل، ووعى أخبارها وعْي المنقّب الذي يسمع القليل فيمحَّصه ويثبِّتُه بعد أن يقتُلَهُ درساً وفحصاً. وهذا الكتابُ هو «صحيحُ الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار». والباحثُ الجغرافيُّ الشيخ محمد بن بليهد شاعرٌ ناظم أفاد من تجربة الشعراء العباقرة السابقين في توثيق المواقع الجغرافية والتاريخية، وعارض عدداً من الشعراء، ووثَّقَ بالشعر انتصارات الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن في ديوانه المنشور بعنوان «ابتساماتُ الأيام في انتصارات الإمام» تتناول أحداثاً ومواقع تاريخية عاصرها وخبرها بنفسه، وكان مبعوثاً أو مرافقاً للملك عبدالعزيز والملك سعود والملك فيصل رحمهم الله فهو رجلُ دولة مخلص لوطنه. ويتحدثُ الأستاذ عبدالله بن محمد البليهد وكيل إمارة منطقة الرياض عن والده المؤرخ الشيخ محمد بن بليهد وعن رفقته وعلاقته بالملك عبدالعزيز وأبنائه ومعاصرته الزاخرة التي تمخض عنها هذا الشعر التوثيقي وهذه البحوث القيمة في المواقع والأحداث فيقول:(2) (في هذه الكلمة أتحدث عن والدي محمد بن عبدالله بن بليهد رحمه الله وعلاقته بالملوك: عبدالعزيز، وسعود، وفيصل رحمهم الله جميعاً. لقد كان والدي على صلة قوية بالملك عبدالعزيز رحمه الله وقد كلفه بعدة مهام منها مهمة سُجنَ بسببها في المدينةالمنورة حيث كان مكلفاً بشراء أسلحة لجلالة الملك عبدالعزيز في ذلك الوقت. وقد شارك أيضاً مع الملك عبدالعزيز في فتح الاحساء حيث كان معهم واستولوا على الحصن التركي في الاحساء واستمرت صلته بالملك عبدالعزيز في معاركه، ثم من بعده الملك سعود وكانت صلته به جيدة. أما الملك فيصل رحمه الله فقد كانت صلته معه صلة صداقة وكان ملازماً له في معظم أوقاته وعاش معه في الحجاز في مكةوجدة والطائف وكان نديماً للملك فيصل وكانوا يتعاطون الشعر ويقولونه. والوالد رحمه الله استفاد من الفرص المتاحة وقام برحلات عديدة حيث قام بتأليف كتابه في التاريخ الجغرافي المعروف (صحيح الأخبار عما في بلاد العرب من الآثار). كما حقق كتاب «صفة جزيرة العرب» للهمداني، كما كتب كتاباً آخر يسمى «ما تقارب سماعه» وكتب به ديوانين من الشعر أحدهما شعر عربي ويسمى «ابتسامات الأيام» والآخر من الشعر النبطي ويسمى «بقايا الابتسامات». والوالد رحمه الله كان له تأثير كبير على أولاده فجميعهم والحمد لله تعلموا وتخطوا المراحل الجامعية وبعضهم أخذ الماجستير وعملوا في الدولة والبعض عمل في القطاع الخاص وكلهم ولله الحمد موفقون في عملهم وفي أمورهم. أما بالنسبة لي فقد عملت في وزارة المعارف فترة والآن أعمل كوكيل لإمارة منطقة الرياض، وقد أمضيت في هذه الإمارة تحت قيادة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان وصاحب السمو الملكي الأمير سطام مدة تقارب الثلاثين عاماً وكانت كلها مليئة بالتجربة ومجدية وتعلمت منها الكثير. تعلمت في معاملة الناس بالحسنى ومحاولة إرضائهم بقدر المستطاع دون الإخلال بأي شيء في العمل، وهذا ولله الحمد نتيجة لتربية والدنا رحمه الله فقد كان حريصاً علينا ويعلمنا مكارم الأخلاق والأدب، والحقيقة كل أولاده تأثروا به. ويبدو لي أنني مهما تحدثت ومهما حاولت فلن أوفّيه حقه ويمكن في الحقيقة أن يعرض عن طريق مؤلفاته وكتبه ودراستها. فإذا نظرنا إلى كتب الوالد نجد أن كتاب ابتسامات الأيام في انتصارات الإمام ديوان شعري سجل فيه الوالد عدة قصائد في الملك عبدالعزيز وفي معاركه وانتصاراته، وأحدها في معركة تربة ومعارك أخرى غيرها. فمن يقرأ الكتاب ويقرأ القصائد يحصل على تسجيل تاريخي للمعارك والحروب التي خاضها الملك عبدالعزيز رحمه الله في فترة من الزمن عند توحيد المملكة كبلد واسع وشاسع، وهذا ولله الحمد أتى بثماره بما نشعر به الآن من أمن ورغد وطمأنينة، كما أن الاستقرار أيضاً حلّ بهذه البلاد بعد توحيدها ونرجو أن يستمر هذا الأمن وهذا الرغد في ظل هذه القيادة الرشيدة قيادة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله». * للشيخ المؤرخ محمد بن عبدالله بن بليهد كتابٌ بعنوان «صحيح الأخبار عما في بلاد العرب والآثار» يتناولُ فيه المواقع الجغرافية والتاريخية مستشهداً بأقوال المعاصرين والشواهد الشعرية القديمة. يقفُ ويقارن ويُصحح ويوثق حتى أخرج هذا العمل الوثائقي المهم «في خمسة أجزاء». وبعد: فالآثار الأدبيةُ للأستاذ محمد بن عبدالله البليهد رحمه الله جديرةٌ بالقراءة والتأمل وبعنوان «الشيخ محمد بن عبدالله بن بليهد وآثاره الأدبية» حصل الدكتور محمد بن سعد بن حسين على الدُّكتوراه من كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر بالقاهرة عام 1398ه. وها هو يتحدّث عن دوره الرائد في توثيق المواقع وخدمة التُّراث والفكر فيقول:(3) (في الواقع ان الحديث عن الأماكن والبقاع من العلوم قوية الارتباط بالإنسان، ولذلك اهتم بها العلماء قديماً وظهرت فيها معاجم كثيرة جداً مثل معجم البلدان لياقوت، ومعجم البكري، وكتاب صفة جزيرة العرب للهمداني. وطرقوا كثيراً من المجالات ولكن في العصر الحديث لم يبتدْر هذا الميدان أحد قبل أن يبتدره الشيخ محمد بن عبدالله بن بليهد رحمه الله . الشيخ محمد بن عبدالله بن بليهد كان مقبلاً على قراءة كتب التراث، ولأنه كثير الرحلات والتنقلات لاتصالها بعمله، فلقد اطلع في الأمكنة والبقاع على ما يؤلف كثيراً مما ورد في كتب التراث. وكثيراً مما وجد في كتب الشراح الذين شرحوا الشعر العربي تحدثوا عن الأماكن والبقاع فيها. من هنا وجدناه يقبل على الأماكن والبقاع التي وردت في الشعر العربي، وأيضاً على ما يتصل بالأدب عند العرب قديماً مثل سوق عكاظ، ولذا نجده أول من حدد موقع سوق عكاظ، ونجده أيضاً قد عمل عملاً لم يسبق عليه وهو البحث في الأماكن والبقاع التي وردت في الشعر العربي في المعلقات وفي مطولات الشعراء الجاهليين، وفي دواوين أرباب المعلقات وما يقرب من 50 شاعراً أو أكثر من غير المعلقات، وكان في حديثه عن هذه الأماكن والبقاع تبيين ما وقع فيه رجال السلف من صواب أو خطأ. وفإذا أخطأوا في التحديد حدده بدلالات وعلامات واضحة عرفها هو بخبرته وطول تجواله في جزيرة العرب، وإذا تغير اسم المكان ذكر ما طرأ عليه من تغير وبدأ ينشر هذه البحوث في «صحيفة أم القرى» فوجد بهذا كثير من رجال الفكر وبخاصة أيضاً الذين كانوا يقبلون ما يكتبه العرب من المستشرقين، وقد طلب بعض العرب وبعض من المستشرقين من الملك فيصل رحمه الله أيام كان نائباً لأبيه على الحجاز أن تجمع هذه البحوث التي يكتبها ابن بليهد في كتاب وينشر، وذلك لشدة إعجابهم بهذا البحث، من هنا جمعها محمد بن عبدالله بن بليهد ثم أضاف إليها أشياء أخرى من ذلك مثلاً تحديد سوق عكاظ، دراسة الأماكن والبقاع الواقعة على طريق مكةالكويت. الاستدراكات الكثيرة التي استدركها على ياقوت وعلى البكري، ثم أضاف إليها شيئاً من مذكراته فكونت جميعها كتاب صحيح الأخبار الذي يقع في خمسة مجلدات. يقع هذا الكتاب في خمسة أجزاء وطبع الآن، نشرت الطبعة الثانية منه، ونشرت أيضاً كما هي الحال في الطبعة الأولى، يعني في خمسة أجزاء كل جزء منفصل. ولم يقف ابن بليهد عند هذا بل كان يورد في أثناء حديثه عن الأماكن والبقاع كثيراً من الأخبار وأحياناً أيضاً يستشهد بشيء من الشعر العامي. وله رحمه الله أيضاً إسهامات أخرى غيرهذا الكتاب، منها كتابه ما تقارب سماعه، وتباينت أمكنته وبقاعه، وقد توفي وهو مخطوط، وقد قمت والحمد لله بتحقيقه ونشره. ومنه أيضاً تحقيق صفة جزيرة العرب للهمداني الذي يراه ابن بليهد ونراه نحن أكثر من بحث في الأماكن والبقاع في جزيرة العرب صدقاً. لأن الهمداني خبر الأماكن بنفسه وكان يكتب عن معرفة ذاتية شخصية. من هنا جاءت صفة جزيرة العرب أصح المعاجم القديمة في الواقع. فحققه ونشره أيضاً عام 1370ه وهي السنة التي نشر فيها أيضاً صحيح الأخبار وديوانه أيضاً (ابتسامات الأيام في انتصارات الإمام). ولم تقتصر أعمالُ الشيخ محمد بن بليهد على البحث والتوثيق والتأليف، وإنما كتب شعراً فصيحاً وشعراً نبطياً نشر شعره الفصيح بعنوان (ابتسامات الأيام في انتصارات الإمام) ونشر شعره النبطي في كتاب منفصل بعنوان: «بقايا الابتسامات»(4) ويُعدَّان من آثاره الأدبية التي قدمها للمكتبة العربية خدمة للأدب والفكر في المملكة والبلاد العربية. وقد تُوفي بلبنان عام 1377ه رحمه الله . *الحواشي : 1 حديث مسجل مع الجنيدل (رقم الشريط 35918/ر) لإذاعة الرياض. 2 حديث مع الأستاذ عبدالله البليهد مسجل في 22/8/1418ه. 3 حديث أ. د. محمد بن حسين المسجّل معه للإذاعة.