في كتاب (بقايا الابتسامات) للشيخ المؤرخ محمد بن بليهد – رحمه الله – الذي أصدره في حياته في عام 1373ه وفيه ديوانه الشعري وقصائد في انتصارات الملك عبدالعزيز لأنه الشيخ ابن بليهد شارك في أكثر من غزوة مع الملك عبدالعزيز كما من سياق قصائده وسياق كلامه في كتابه ( ابتسامات الأيام في انتصارات الإمام ) بل صرح في صحيح الأخبار فهو شاهد عيان لمسيرة التوحيد التي قادها المؤسس الملك عبدالعزيز – رحمه الله – وقد وثق الكثير من المعارك والغزوات ولعل أشهرها معركة تربة سنة 1337ه التي نظم فيها قصيدة فصيحة، أما هذا الجزء أو الملحق فهو خاص بالشعر الشعبي وقد روى ابن بليهد في هذا الكتاب بعضاً من ذخيرته الشعبية وانتقى من مخزون ذاكرته الضخمة من أشعار شعراء النبط من الحاضرة، وهذا بالنسبة لما يحفظه ابن بليهد نزر قليل جداً، ولكنها نماذج فقط وناشر (بقايا الابتسامات) هو د. محمد بن سعد بن حسين الذي أصدره عام 1405ه وقد احتفى بالكتاب ومؤلفه وقدم دراسة جميلة عن الشعر العامي وعن خصائص شعر ابن بليهد العامي والأغراض التي طرقها، وأما مختارات ابن بليهد الشعبية فقد اختار خمسة هم الشعراء، يقول – رحمه الله – وأشهر شعراء النبط في نجد خمسة: حميدان الشويعر، ومحسن الهزاني، ومحمد بن لعبون ومحمد القاضي وعبدالله بن سبيل وكلهم من سكان القرى وكل هؤلاء الخمسة فحول في صناعته وكم كان بودنا أن بث ابن بليهد جميع مروياته في هذا الكتاب واقصد بذلك روايته للشعر أو القصص التي لها مناسبات أشعار، صحيح أنه روى نخبة ممتازة في كتابه الفذ (صحيح الأخبار) لكن ليس كل ما يحفظ كتبه فيما أعتقد وقد عاجلته المنية وعمره 67 خريفاً وهذا العمر صاحبه لا يعد من المعمرين أو الطاعنين في السن، ثم أن بليهد – رحمه الله تعالى – وهو الشاعر الشعبي والراوي لشعر غيره والمتذوق للنصوص الشعرية والناقد لها نراه يختار أبياتاً من شعر حميدان الشويعر – رحمه الله – ويقول عنه أن شعره مليء بالأمثال والحكم فمن قول حميدان: ترى عندكم ضد للارقاب مكنح أشد من اللي يرقبون جفان وعدوك إذا خلاك يوم مذلة فهو مسرج للملمات حصان صكه بالهندي على كل جانب وما كبر من عظم المصيبة هان ومنها هذا البيت من نفس قصيدة حميدان النونية: هرج الرخا يوردك بريت بالضحى وبالضيق ما ترد الخدود أقرانه وبرّيت كما ذكر في الهامش بئر في شمالي نجد طوله خمسة وسبعون باعاً والمعنى ظاهر بمعنى أن الكلام سهل كل يجيده لكن حقيقة الأقوال هي الأفعال وهذا ما صوره حميدان أنه إذا اشتدت الأمور لا يستطيع هذا المتكلم غير الفعال ما يرى إلا موضع قدميه، أو أقل من ذلك وكذلك روى ابن بليهد أبياتانسبها لحميدان الشويعر وروى كذلك للشاعر العبقري راشد الخلاوي والأقرب أنها للخلاوي لأن هذه طرقه : ترى ما يداً إلا ويد الله فوقها ولا طائرات إلا وهن وقوع ولا ضحك الا والبكا مردف له ولا شبعة الا مقتفيها جوع الا يا ولدي من ثمن الخوف ما سطا والأنجاس ما خلو سبيلك طوع ويقول ابن بليهد عن شعر حميدان.. وقد امتاز على جميع شعراء النبط بشعره لأنه خال من المجون والغزل ويتجنب كل أمر يدنسه وهمته رفيعة عليا، فمنزلة شعره في الأشعار النبطية كمنزلة شعر زهير في الأشعار العربية، وعلى شعره ديباجة ثانية قريبة من ديباجة أشعار على بن المقرب لأنه يحمل الستة على قتال الستين.. انتهى كلامه، أما كلام ابن بليهد – رحمه الله – أنه ليس لحميدان الشويعر غزليات فهذا صحيح وأما المجون فقد رويت له أبياتاً أثبت بعضها جماع الشعر الشعبي المخطوط والمطبوع، ويبدو أنها لم تصح عند ابن بليهد وإلا فشعر حميدان المنسوب إليه لا يخفى على ابن بليهد وبالأخص أنهما من منطقة واحدة وغسلة قريبة جداً من أثيثية والقصب وتحدث ابن بليهد عن محسن الهزاني ، وقال رحمه الله: وله قريحة في شعر النبط تجيد صناعته وهو مغرم بالمربوعات من الشعر كقوله ، وهو مطلع قصيدة له: يا خردات عارضني ضحى العيد ما هن من غزلان الفجاج ببعيد منهن يقول مورد القرن توريد تشري الجمال اليوسفي قلت انا بيش وتراجم ابن بليهد لمحسن الهزاني ولابن سبيل والقاضي وبن لعبون وحميدان الشويعر هي من أوائل التراجم لهؤلاء الشعراء إن لم تكن أولها، ومن فوائده في ترجمة الشاعر محسن الهزاني أنه حدد تاريخ عصره بأنه من رجال القرن الثاني عشر الهجري. ومن فوائده وترجمته للشاعر الفحل ابن سبيل ، الذي عده ابن بليهد أعظم شعراء النبط في نجد ويرجع ابن بليهد سبب تفضيله لابن سبيل، أن له غزارة في شعر النبط ومعاني مبتكرة لم يسبق عليها وفي شعره أمثال وحكم باقية على ألسنة أهل نجد إلى هذا اليوم واستشهد ابن بليهد على شعر ابن سبيل بنماذج منها: إذا عزمت فحط للرجل مرقات من قبل يدري بك حسود ربادي يقول: ابن بليهد – رحمه الله – معلقاً على هذا البيت معنى كلامه إذا أردت أمر فلا تأته حتى تتثبت مما تجنى عواقبه ثم استشهد ابن بليهد ببيت آخر لابن سبيل وهو البيت المشهور الرائع الخالد وهو: لا تأخذ الدنيا خراص وهقوات يقطعك من نقل الصميل البرادي ويقول ابن بليهد معنى قوله: إذا اردت الرحيل وأنت في فصل القيظ فلا يغرك براد الصبح خذ معك أهبتك من الماء قبل أن يشتد عليك الحر وأنت في منتصف الطريق وليس عندك ماء فتندم على تركه.. ويؤكد ابن بليهد – رحمه الله وعفا عنه - على قوة شعر ابن سبيل وإبداعه قائلاً: وكان هذا الشاعر قد سلست عبارات شعره ووضحت معانيه وهو باهلي النسب عاش هذا الشاعر من منتصف القرن الثالث عشر الهجري إلى منتصف القرن الرابع عشر الهجري – رحمه الله –. فضل ابن سبيل على غيره لغزارة انتاجه ومعانيه المبتكرة وهذا كلام ابن بليهد كلام من التقى بابن سبيل رحمه الله، بل أنه أخذ عنه كما في روايته النادرة قصته مع الشاعر حنيف ابن سعيدان التي رواها ابن بليهد في كتابه هذا، وهو أول راوي لهذه القصة ومعها الأبيات المشهورة لابن سبيل موجهة إلى حنيف بن سعيدان وابن بليهد أول من ذكر تاريخ ميلاد ابن سبيل بالتقريب في منتصف القرن الثالث عشر الهجري ومات في منتصف القرن الرابع عشر الهجري، ولعله جاوز المائة سنة وبعض المؤرخين وهو الشيخ المؤرخ صالح بن مطلق – رحمه الله – يحدد وفاته سنة 1352ه وهو الصواب وابن مطلق معاصر لابن سبيل ويتفق مع تحديد ابن بليهد لوفاة ابن سبيل بالتقريب في منتصف القرن الرابع عشر والعلامة الموسوعي الزركلي في كتابه (الأعلام) جعل وفاة ابن سبيل 1357ه وهذا ليس دقيقا مع أنه أشار إلى تحديد المؤرخ ابن مطلق في الهامش لكن لم يعتمده، وهذا غريب من الزركلي بل جعل وفاته سنة 1357ه بناء على تحديد خالد الفرج – رحمه الله – في كتابه (ديوان النبط) وابن مطلق معاصر لابن سبيل ولعله رآه وشاهده لأنه جلس مدة من الزمن في بلاد الرين هجرة قحطان، والرين ليست بعيدة عن نفي ذاك البعد الشاسع وهذا استطراد للفائدة، واختار المؤرخ ابن بليهد خمس قصائد لابن سبيل مما يدل على إعجابه به كما ذكر هو عن نفسه – رحمه الله – والأستاذ الفاضل محمد بن سبيل ليته يورد ترجمة ابن بليهد لجده ابن سبيل في الطبعة الثالثة فإنها فريدة وجيدة واختياره لبعض أبيات ابن سبيل، ومن آثار المؤرخ ابن بليهد – رحمه الله – إشرافه على جمع الشعر العامي، فقد كلف وزير المالية السابق معالي الشيخ عبدالله بن سليمان – رحمه الله- ابن بليهد بالإشراف على جمع الشعر من الرواة، وقد مكث ابن بليهد ببلدة الشعراء يسجل ما عند الشعراء والرواة من أشعار وقصائد واستعان ابن بليهد بزائريه بحكم صِلاته القوية إضافة إلى خبرته بهذا الأدب ومحفوظاته الكثيرة، وكان ممن التقى به ابن بليهد الشاعر ابن عويد فأخذ منه شعر ابن سبيل وراكان بن حثلين وأخذ عن عبدالعزيز بن فايز ومكث ابن فايز عند ابن بليهد أسبوعاً كاملاً ليكمل له شعر ابن سبيل وكان الذي يكتب الأشعار من مسامع الرواة هو الأستاذ سعد بن جنيدل بتكليف من ابن بليهد وبعدها أخذ ابن بليهد سجلات الشعر وسلمها لابن سليمان، وابن سليمان سلمها لابن فرج ونشر بعضها ابن فرج في كتابه (ديوان النبط) هذا ما قاله الأستاذ الأديب المحقق سعد بن جنيدل نقل عنه هذا د. مرزوق بن تنباك الحربي في كتابه (نظرية الفكر العامي والفصحى)، فابن بليهد – رحمه الله – له الريادة بالإشراف على جمع هذا الشعر العامي ثم نشرها الأستاذ الأديب المعروف خالد الفرج – رحمه الله تعالى – في جزءين عام 1371ه وحدثني أستاذنا سعد بن جنيدل أن أصح رواية للشعر الشعبي للشعراء الوارد ذكرهم في ديوان النبط، لأن ابن بليهد أخذها مشافهة من الرواة أنفسهم بدون تغيير ولا تبديل، ذكر لي هذا، والسؤال أين بقية المسودات الشعرية التي املاها ابن بليهد؟ لأن الفرج لم ينشر كل الذي سلم إليه من سجلات، أقول لعلها في مكتبة خالد الفرج ، رحم الله المؤرخ الجغرافي والرائد والراوية الشعبي محمد بن بليهد فقد أسدى للمكتبة العربية موسوعة قيمة خلدت اسمه في عداد المؤرخين والمؤلفين المجيدين، ولي عتب على الناشر الأخير لموسوعة صحيح الأخبار فقد حذف منها المذكرات التي كتبها ابن بليهد – رحمه الله – في آخر كتابه ولعل طبعة قادمة تكون بإشراف بعض الباحثين بإخراج جميل وتوثيق للأشعار والنصوص النثرية وفهارس تخدم الكتاب بصورة علمية ومحققة. محمد بن بليهد د. بن تنباك خالد الفرج