الأديب الشيخ سعد بن جنيدل ت (يوم الثلاثاء 24 جمادى الأولى 1427ه) رحمه الله، والذي يعتبر أحد رواد المحققين في تاريخ جزيرة العرب وجغرافيتها وآدابها بأبحاثه ومؤلفاته له اهتمام كبير بموروثنا الشعبي، يحتفظ بالكثير من الأدوات والقطع التراثية، وكما أنه يهتم بالشعر الشعبي فقد أصدر العديد من الدواوين التي حفظت بعضاً من الأشعار، ويحتفظ ببعض المخطوطات ولم يمهله العمر طويلاً لكي ترى النور. قبل أكثر من عشرين عاماً بعث لي بمخطوط ديوان فهيد المجماج، وقد نشرنا في صفحة خزامى بعضاً منها، وسوف نقوم بنشر الديوان كما جاء في المخطوط على أجزاء، فقد جاء المخطوط في 18 صفحة بأوراق الشيخ التي يميل لونها للاصفرار بخطه الجميل،وحروفه المشكلة وقد وضع له غلافاً بسيطاً كتب عليه فهيد المجماج حياته - أخباره - شعره، أعده سعد الجنيدل وختمه بختمه جاء في الصفحة الأولى: حياته: فهيد - بضم الفاء تصغير فهد - بن عبدالله بن فُهيد المجماج التميمي، انتقل جده فهيد من الجراية في المذنب وسكن بلدة الأثلة مع قبيلة البواهل، وتزوج عائشة أخت حمود وعلي آل عويويد أهل الأثلة، فولدت له خمسة بنين هم: ناصر - كان ثرياً وله شهرة في حياته، ومحمد ومطلق وعبدالله وهو والد الشاعر فهيد، وسليمان، وولدت له غيرهم ثلاث بنات. واشتهر الشاعر باسمه وبلقب أبيه، فهيد العويّد، لأن أباه كان يلقب بعويّد. عاش في بلدة الأثلة مقر أسرته فقيراً كادحاً يعمل في الزراعة في الفترة التي عاش فيها الشاعر الوجداني عبدالله بن سبيل في بلدة نفي ولقرب ما بين البلدتين ولما بين الشاعرين من صلة القرابة ولما أحاط بالشاعرين من ظروف معيشية مماثلة، ولنشأتهما في حقبة زمنية واحدة وفي أحضان بيئة اجتماعية واحدة فإن شعرهما جاء متشابهاً يمثل فترة تاريخية من حياة القبائل البدوية والأسر الحضرية في نمط شعري متشابه، ولهذا يقال: إن بعضاً من شعر فهيد المجماج أدمجه الرواة في شعر ابن سبيل لشهرة ابن سبيل ومكانته الاجتماعية وكدليل على ذلك فإن بعض الرواة في هذا العهد ينسبون قصيدته التي مطلعها: لا والله إلا شدوا البدو ونجاع كل هدم مبناه وارتد زمله لعبدالله بن سبيل، والصحيح الذي لا شك فيه أنها لفهيد المجماج. وأود أن أشير هنا إلى أن كثيراً من شعره فقد بفقده رواته، كما فقد أيضاً كثير من شعر عبدالله بن سبيل، لأن ما جمع وطبع من شعر ابن سبيل لا يمثل تراثه الشعري الذي بلغ شهرة واسعة في حياته. وأعود إلى الحديث عن حياة فهيد المجماج، وقد سبق القول إنه عاش فقيراً كادحاً. وهنا يحسن أن أورد من شعره ما يدل على ذلك، يقول وقد عانى من الفقر وضيق العيش، كان ذلك في أوائل القرن الرابع عشر الهجري: الله من الفقر الأمس يا الله إن ترفعه يا رب إن ترفعه عنا بريح الغنات يا الله هبوب تذعذع بس لو ذعذعه ما هوب قصدي تجاره مير نبي السمات العيش في غرفته عساه ما يبلعه يبي الثلاثة عطاه ثلاثي المدرجات ما غير تجربعه بريا لنا جربعه وإلى لقيناه قال أصواعنا غاديات في هذه الأبيات يسأل ربه أن يرفع عنهم الفقر الشديد ويذهب مساسه بشيء من الغنى ورخاء العيش، وهو لا يريد تجارة زائدة عن قوته وثراء إنما يسأل ربه عيشاً كفافاً. ثم يتحدث عن تاجر البلدة واحتكاره للطعام ومدى تحكمه في الأسعار، فالعيش، يعني القمح موجود في غرفته غير أنه محتكر يريد أن يخفض سعره إلى ثلاثة صيعان بالريال. ثم يدعو عليه بأن يصاب بمثولث (ثلاثي) الرصاص. ثم يتحدث عن كيفية مراوغة التاجر في احتكاره، ومتابعتهم البحث عنه كما يبحث عن الجربوع في لوايا جحره من يريد صيده، فإذا وجدوه ليبيع له بريال قال إن الصاع الذي نكيل به قد ضاع فلا نجد ما نكيل به لكم ليرضخوا للسعر الذي يرغبه. إنها صورة معبرة حقاً ناطقة بوصف بارع لحياة قاسية وظروف مليئة بالشدائد يعاني فيها الإنسان ما يعانيه من المتاعب في سبيل حصوله على قوته. وهذه الأبيات تشبه أبيات الشاعر عثمان بن منيع الذي عاش في فترة حياة فهيد وفي نفس المجتمع الذي عاش فيه، وصور صورة ناطقة لهذه الحياة كما صورها فهيد المجماج، فهو يقول يخاطب ناقته التي يهب عليها للأودية ليخبط الشجر: يا فاطري بك من نصيبي مواري إلا إلى منا نصينا شعيبه ترعين من بين الشجر والمذاري وأصب لك صافي برايد قليبه العيش من دونه ضحاف المجاري ومن دونه الصعلوك يردي نصيبه وقلاقل تشدي أنياب الضواري وربع محاولهم علينا تعيبه العيش تحول دونه أبواب مزالجها سخيفة طويلة، والصعلوك يعصر به حظه دونه لا يحصل منه على ما يريد. إن هذه الأبواب المقفلة التي يلوذ العيش خلفها ذات مجار (مزالج) قلاقلها (أسنانها) التي تسقط فيها وتشدها تشبه أنياب الضواري (أنياب الذئاب الضارية) فهي حادة وصلبة وقوية، ولها روعة في وجه الفقير ومرأى كالح مكشر كأنياب الذئاب الجائعة الضارية لا رحمة فيها ولا لين ولا ما يبعث الأمل في النفس الجائعة الفقيرة. ويقول فهيد في أبيات أخرى، وقد ذهب إلى قرية وضخي الواقعة في غربي وضاخ القريبة من بلدته الأثلة ليعمل فيها، فاشتغل في زرع (كالفا) وكان معه عامل آخر، وكانا في حالة بؤس وعناء: يا أخوي أنا وياك لمتنا الأيام بين العرف وضاخ بأرض المذله بالليل بق ما يخليني أنام والقايلة كني على جوف مله وحطيت لي من فضله الذيب دمام ليته قوي ويصبر القيظ كله العَرَف: سناف في أعلا وضاخ: إنهما في أرض المذلة، إنها مذلة الفقر ومسكنة الجوع والتعب، في ليلهما يعانيان من لدغات البعوض (البق) ويسهران تحت وطأة هجماته، وفي القيلولة يتقلبان على حرارة الرمضاء، ويتململان على سمومها، وكأنهما في جوف نار من شدة الحر وقسوة المعاناة. أغار الذئب على حمار فافترسه وبقية ما أفضله منه جلده وعظامه، فأخذ الشاعر من جلده قطعة وصنع منها دماماً (طبلاً) ليتسلى به في ليله إذا أسهرته لدغات البعوض ليلاً، ولعله أن يلهو به فيخفف من آلامه ويريحه من آثار أتعابه، فيتمنى لهذا الدمام أن يكون قوياً متيناً لعله يبقى معه فترة القيظ كله حتى ينتهي زرعه الذي يعمل فيه ويصفي محصوله. وهكذا كان يعاني هذا الشاعر من حياة البؤس ويتألم من ضيق العيش ويئن من وطأة صروف الدهر ومرارة الحياة. وهو من الشعراء الذين عاشوا في آخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الهجري. تقدمت السن بوالد الشاعر، وكان فقيراً وله عدد من البنات، وليس له من البنين إلا فهيد وهو الذي يسعى عليهم، فدعته الحاجة إلى العمل عند فلاح من أهل الأثلة فعمل عنده كالفاً (1) في زرعه، فبينما هو ذات يوم يسوق السواني في المنحاة وقد بلغ به الجهد إذ مر به رجل كان يرعى البقر لأهل القرية يسوق البقر فقال مخاطباً راعي البقر: ألا واهنيك بس تتلي البقر ومريح وألا واهنيك كل رجم تعدي به (2) وأنا أتلي معاويد لمحالهن ضبيح حداني عليهن عود أنا ويش أسوي به (3) وفي هذه الأثناء كان عمه ناصر المجماج يمشي وراء راعي البقر فسمع البيتين وأدرك ما يعانيه أخوه وابنه من الحاجة وأخذته مشاعر الحنان لابن أخيه مما هو فيه من الجهد فنزل إليه في المنحاة وأخذ المسوقة من يده وحلف بالله أن لا يبقى في هذا العمل الشاق فأخذه معه إلى منزله - وكان موسراً - وأعطاه من النفقة ما يسد حاجته وحاجة والده ثم ذهب إلى والده. كان فهيد جالساً في السوق ذات يوم فمر عليه طفل اسمه ناصر وكان يبكي، فقال له ما يبكيك يا نويصر - تصغير ناصر - فقال: إني جائع وأبغي غداء، فقال مخاطباً له شاعراً بما شعر به من الجوع وحاجته إلى الغداء: يا نويصر طالت الهجره علينا ذا لنا عامين والوادي سناوي (4) والتجار وجيههم قامت تشينا كن واحدهم عن النفر امتداوي (5) ومن هذين البيتين وما أثارهما من شكوى الطفل يدرك المتأمل ما يعانيه الناس كبارهم وصغارهم من وطأة الفقر وآلام الجوع في تلك الحقبة، فقد تغيرت معاملة تجارهم لفقرائهم، وغلظت وجوههم، فلم يعودوا يؤملون في معاملتهم، وقد مر عامان متتاليان والجفاف وقلة المطر ما زالت، والوادي لم يصبه مطر. شعره ومنزلته بين الشعراء: إن من يتأمل شعره يجد أنه شعر متين البنية عذب العبارات خال من التكلف، فهو شعر طبيعي صادق العاطفة بارع الصور مجنح الخيال لا يقل في جودته ودقته في التعبير عن مستوى شعر معاصريه من الشعراء مثل عبدالله بن سبيل وعبيد بن هويدي الدوسري وأمثالهما من الشعراء، ومن مميزات شعره أنه كان كثيراً ما يربطه ببيئته الطبيعية، وبذلك يؤكد مدى علاقته ببيئته والتصاقه بها، وفي ذلك كذلك عون لمن يسعى لتحقيقه وصحة نسبته إليه، يقول في قصيدة له: شدوا ودنو اللحني كل مطواع كل اشقح ما احسن قرينه ورمله غدا لهم دون الرفيعه تمزاع كل بغى درب عزل وانقسم له فالرفيعة التي تفرقوا دونها بئر زراعية واقعة في أعلى بلدة الأثلة لأسرة المجماج. وفي قصيدة أخرى يقول: البارحه فوق الركايا مقيمين ونيرانهم كن البروق اشتبابه واليوم ما غير الرخم والمعاطين ومنازل ما كن حي وطابه طريقهم ياطا الثمد منه ويمين وغدا لهم دون الاسيمر ضبابه الثمد: مشاش عذب الماء في أسفل الأثلة، والأسيمر - تصغير أسمر - جبيل يطل على جو الأثلة، ويقول في قصيدة أخرى: يامربعه يسقيه وبل الرعود يمطر عليه بليله هيد بيه اخيلهم لين اتقوا يا حمود لين اتقوا بين القبل والشفيه العبل: جبل أبيض في أعلى وادي الأثلة، والشغية شعب يدفع في بطن الوادي. وفي قصيدة أخرى يقول: لا والله الا صار للبد ونضناض دونك حجير مغيزل العين معضوض طمنت رأسي للمنازل ولا راض ولا شفت بيت بأيسر البدع منهوض البدع: بئر زراعية في الشرق الشمالي من بلدة الأثلة. وهكذا نرى مدى اهتمامه بربط مشاهداته وصوره الشعرية بالبيئة المحلية. وفي تغزله نرى أن شعره يمتاز برقة العبارة مع جزالة الألفاظ والانسجام، كما أن فيه إبداعاً في الوصف وبراعة في التصوير وصدقاً في العاطفة، يقول في قصيدة له: يا ونتي ونة ضعيف الى هين وواجرحي اللي كلما له يكودي الناس فكروا بي ولا همب دارين وان سايلوني قلت ذا لون عودي إلى أن قال: اوي خل بس لولاه جافين ولولاه يمحني بكثر الصدود تكفين يا طف المهى لا تصدين ترى صدودك مرث بي لهود ويقول في وصف محبوبته: يا غصن موز ناعم له بمرباع ومنين ماهب الهوى مال حمله راعي هدب عين مضاليل ووساع خرس عيونه والمحاجير جمله عليه ما وقفت عيوني بالأدماع وهجس ان ايلحقني على الطول سمله وفي قصائده الكثير من الوصف الأخاذ والصور المعبرة إلى جانب الموسيقى الشعرية الطيعة السليمة من رتابة الصناعة والتكلف. 1) الكالف: هو العامل الذي يعمل في سقي الزرع، من الكلفة والمشقة. 2) بَسْ: فقط، لا غير ذلك. مريح: تعمل في راحة، تعدّي: تصعد 3) معاويد: جميع معيد: وهي الناقة التي تسقي الزرع. ضبيح: صوت عال. عود: شيخ كبير السن يعني أباه. ويش أسوي به: ماذا أعمل في حاجته؟ 4) الهجرة: المدة ويعني بها مدة الجدب والمسفية. ذالنا: هذالنا. سناوي: مسن لم يسل. 5) قامت: أخذت تشين تعبس وتكفهر قنوطاً بعد طول الجفاف. النفر: القرح الصغار، كأن نفراً أصاب وجوههم فوضعوا عليه دواء. الصفحة الأولى غلاف الديوان شعره ومنزلته بين الشعراء علي الموسى