يقول إيجيرو ناكانو في كتابه: الرحلة اليابانية، في عام 1358ه 1939م المترجم من: سارة تاكاهاشي، وهو من إصدارات دارة الملك عبد العزيز تحت عنوان: السانية، الآلة العربية: "كان لدينا وقت كافٍ بعد تناول الطعام، فخرجنا نتجول حول الخيمة، فرأينا "السانية" التي بدت لنا كأنها مقصلة عرضها حوالي 90 سنتمتراً وارتفاعها حوالي ثلاثة أمتار. وتوجد حفرة يرتفع منها عمود، وسطح مصنوع من ألواح الخشب، وتحت هذا السطح بئر قطره متر ونصف المتر، وعمقه عشرون متراً، وتوجد خمسة غروب يبدو أنها مصنوعة من جلد الغنم، لسحب الماء إلى أعلى البئر. ورأينا خمسة حمير وبعض الرجال يلبسون ملابس تشبه ملابس الفلاحين في مصر، ومعهم طفل، كان الطفل يركب على الحمار، وعلى ظهر الحمار حبل سميك يتفرع إلى اثنين عند رأس الحمار، واحد يتجه إلى أعلى البئر، والآخر عند الجزء الأسفل من البئر، والحبل العلوي يذهب إلى الغرب الذي حمل الماء من البئر، والحبل السفلي يتجه إلى الغرب، كان الحبل السفلي أقصر من الحبل العلوي بنحو ثلاثة أمتار، وكان الحمار حين يقترب من البئر ينزل الغرب في البئر، وحين يبتعد عنه يخرج الغرب وقد امتلأ من ماء البئر، وهكذا يتم إخراج الماء من البئر عن طريق هذه الغروب المصنوعة من جلد الغنم. وتستمر هذه الحركة ذهاباً وإياباً، وهكذا اعتاد الحمار هذا العمل. وأخذت أعد للحمار: واحد.. اثنان.. ثلاثة.. إلى العدد العشرين، وحين يود الطفل إراحة الحمار يضربه بالعصا فيتوقف عن الحركة. غمرني شعور بالتعاطف مع الحمير، لأن عليها أن تعمل طوال الليل، وهي حيوانات تمتاز بالصبر، أذكر أنني رأيت في مصر ساقية بدائية، وهذه السانية مثلها، لكنها لا تشبهها في جميع الوجوه , فالساقية في مصر تدور فيها بقرة عصبوا عينيها، فتظل تدور حول البئر، ويتحرك الماء في دواليب من الصاج، لكنهم هنا يستخدمون الحمير، والطريقة مختلفة تماماً، هذه الطريقة معقدة أكثر من الساقية، ورحت أحسب: الحمار يذهب تجاه البئر، ويعود في دقيقتين، ويخرج من الماء حوالي عشرة ليترات، وإذا استمر هكذا مدة ساعة فإنه يخرج 300 لتر من الماء. وهي كمية كبيرة من الماء يخرجها الحمار في ساعة. والبقرة في مصر أسعد حالاً من الحمار هنا، فهي معصوبة العينين، ولذلك تمضي وكأنها تسير في طريق واحد، كما أنها تعمل في النهار فقط، وليس في الليل، فتكون لديها فرصة للراحة، وعلى أية حال هذه هي الطريقة البدائية لاستخدام الآلة لدى أهالي نجد، أخذنا نصور هذه السانية قبل أن ننطلق في المرحلة الأخيرة من الرحلة على الطريق المؤدي إلى الرياض" انتهى ص74. السانية إذاً أعجوبة عندنا قبل أن تلفت انتباه غيرنا، كونها معقدة في عملها كثيرة أجزاؤها، لكن تبقى من إبداع أهل البيئة، وهي الآلة العربية التي ابتكرها الإنسان في الجزيرة العربية واستمر يستخدمها طيلة تاريخه مع الزراعة، دون أن يضيف لها أو يلغي شيئاً منها، وهذه طبيعة أجدادنا يبقون على الشيء ما دام يؤدي الغرض ن فاعتبروا تأديتها للغرض كافياً لأن تبقى تؤدي عطاءها وخدمتها كما هي، وليس في الإمكان أكثر مما هي عليه، خاصة ونحن نعلم أنه لا يوجد طاقة محركة لدى ساكن الصحراء لكي يتم تشغيلها على تلك الطاقة، لا أنهار ولا مساقط مائية أخرى، ولم تستغل الرياح بشكل يصل إلى السانية، ولا يوجد فراغ يكفي لصرف وقت لتطوير تلك الوسائل فالناس مشغولون بلقمة العيش وهمهم كله المحافظة على ما لديهم، فالماء في أعماق الأرض ولا يمكن الوصول إليه إلا بالحبل والدلو أو الغرب، فاستخدمت منذ القدم السانية بكل مكوناتها التي تزيد على 15 قطعة مترابطة إذا اختل منها قطعة تعطلت كلها، وهي الوحيدة التي يستخرج بواسطتها الماء لغرض سقيا الزرع والأشجار، أما المياه التي تجلب للشرب والاستعمالات الأخرى فيمكن استخدام الدلو والرشاء وسيلة لها، وهذه ليست معقدة أعني الدلو والحبل أو الرشاء بل بسيطة وتستخدم لدى الشعوب كلها. إذاً لا نتعجب من اندهاش الرحالة وكل زائر للجزيرة عندما يقف أمام السانية التي تركب فوق البئر وتأخذ شكلا يستغربه كل من رآه، ويحاول تشبيهه بشيء في بلاده، كما قال صاحب الكتاب أنها تشبه المقصلة، فهي بالفعل تشد الانتباه ولا يمل المتفرج عليها من تكرار الفرجة والنظر، حتى الذين ألفوها وخبروها تعجبهم في تناغم مكوناتها وصوت المحالة وخرير الماء يتدفق من الغروب والإبل أو البقر والحمير تتردد في المنحاة والسائق خلفها يحثها على السرعة وعدم التوقف. كما أن كل مكوناتها تقريبا تتحرك، ولو استعرضنا تلك المكونات الثابتة والمتحركة في السانية لوجدنا: الرشاء، والغرب والدراجة والسريح والمحالة، وفي المحالة القب والأسنان، والدامغة والمحاور و الزوابن والزرانيق والثقل. وفي الغالب يضيف العامل الذي يشرف على الدواب أصوات غناه وأناشيده التي يقطع بها وقته وتألف الإبل خاصة صوته وتتحرك بتلقائية دون حثها أو زجرها ما لم تكن متعبة، وهذه الأصوات منه علما أن أغلبها قصائد معروفة لشعراء يحفظها العامل تجذب القرب من السواني وتضيف للمكان مزيدا من الإعجاب وشد الانتباه لما فيه. وفي هذا السياق يقول الشاعر علي بن محمد المخيليل رحمه الله، المتوفى في عام 1360ه يجر صوته مثل ما يقنب الذيب مع السواني ساهرات عيونه وإذا كانت اليوم لا توجد إلا نماذج تراثية تحيي ذكراها فإنها في ذاكرة كبار السن لا تزال باقية صورتها والقصيد حولها يحيي تلك الذكريات. يقول الشاعر حجاج الحربي وين السواني وهاك الناس وبزوره ووين النخل والغروب وبير بتّالي من جمّها كل وحده تترس قدوره غروبٍ تصب القراح العذب وزلالي راحوا هل الدار ووقتٍ راحت عصوره وقتٍ مضى مالبسنا بشت وعقالي ملبوسنا الساحلي والحال مستورة نلبس مرودن رخيص الثوب بريالي وناكل عصيدة غدا والناس مستورة وأنشط من اللي عشاه ألوان و اشكالي ويقول الشاعر سليمان بن موسى الموسى وين الزّعَب وين هاك الركايا وين (الوِلِيدي) فيه قَروٍ ومصفاة وين الغُرُوب بصافي الماء ملايا على معاوِيدٍ حدُورٍ وقبلات وْمحّال تسمع له ونين وعوايا مثل الذياب اللّي خلايا مجيعات وين الرِكيّة والبيوت الدنايا متماسكة مثل اليدين القوِيّات الوليدي: بئر في محافظة مراة، ينسب إلى خالد بن الوليد، وهو من التراث الباقي إلى اليوم على حاله في البلدة القديمة جنوب ضلع كميت حتى الآن. والسانية تلك الآلة المدهشة العجيبة، لا تعمل وحدها وإن كانت أقرب إلى العمل الآلي في مسألة متح الماء من البئر وصبه في اللزاء أو مجمع الماء الشبيه بالجابية أو البركة والتي ينحدر منها الماء في سواقٍ ناحية الزرع والأشجار، إلا أن العمل في الفلاحة دؤوب من خلال طاقم بشري، فمنهم من يراقب حركة ذهاب وإياب دواب السانية التي تقوم بمهمة إنزال الغرب وجذبه، ومنهم الصبيان (جمع صبي) وهم الذين يسقون الزرع و يقدرون توزيع الماء على الأحواض والإشراف عليه، ومنهم من يعمل في عزق الأرض وحراثتها والحصاد وإصلاح النخيل وإطعام الماشية ..الخ وهذه الحركة المتواصلة تضيف مع السانية شيئاً من المتعة في مشهد يشد الجميع سواء غرباء أو من أهل المكان أنفسهم، فقضاء وقت في هذا الميدان فيه متعة وأنس لا يمل. الزرانيق توضع فوقهما الدوامغ والأنباع ناصر الحميضي