خلال أقل من أسبوع، ألقى الغزو الروسي لأوكرانيا بتبعاته على مجمل النظام العالمي: أعاد خلط أوراق جيوسياسية، وضع موسكو في موقع "المنبوذ" دوليا، وحّد الدول الغربية في مواجهة الرئيس فلاديمير بوتين، وأيقظ التهديد النووي من سباته. يعدّ الغزو الذي بدأ فجر 24 فبراير، نقطة تحوّل كبرى. تتعدد الأسباب لذلك، ومنها أن الغزو "أطاح الآمال بأن أوروبا في حقبة ما بعد الحرب الباردة، ستكون في منأى عن حرب ضخمة"، وفق المحلل في مجموعة "أوراسيا" البحثية آلي واين. رأت أطراف عدة تتقدمها الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وحتى الأمانة العامة للأمم المتحدة، أن غزو روسيا لجارتها الشرقية، خرق صارخ لمبادئ النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية. نهاية "الموت الدماغي" للناتو في أواخر 2019، اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن حلف شمال الأطلسي (ناتو) بات في حالة "موت دماغي"، في ظل خلافات بين أعضائه. مطلع 2021، سعى الرئيس الأميركي جو بايدن لتطبيع العلاقات مع الحلفاء في ناتو. أراد أيضا أن يكون الحلف جزءا من صراع النفوذ الاستراتيجي مع الصين، ما أثار تحفظات حلفاء رأوا أن مواجهة كهذه ليست ضمن الأسباب الموجبة لنشوء الحلف. أسّس الحلف في مطلع الحرب الباردة لتوفير حماية من واشنطن، المقتدرة نوويا، للقارة العجوز في مواجهة الاتحاد السوفياتي. مع الأزمة الراهنة عاد الحلف الى دوره التاريخي: مواجهة موسكو. ويرى واين إن "الغزو الروسي عزّز حلف ناتو وأعاد شدّ الأواصر عبر الأطلسي"، معتبرا أن استمرار هذا "التماسك" على المدى البعيد وتأسيسه لمقاربة مشتركة بشأن احتواء روسيا، ليس مضمونا بعد. تسارع أوروبا الدفاعية كان الدبلوماسي الفرنسي جان مونيه يعتبر أن أوروبا "تصنعها الأزمات"، وبنيانها السياسي سيكون حصيلة حلول هذه الأزمات. بعد أكثر من أربعة عقود على وفاة هذا السياسي الذي يعد من "الآباء المؤسسين" للاتحاد الأوروبي، يثبت الظرف الراهن نظريته أكثر فأكثر. سرّع الغزو الروسي لأوكرانيا من توجّه الدول ال27 في التكتل لتعزيز قوتها الدفاعية، واتخاذ خطوات غير معهودة، خصوصا في حقبة ما بعد الحرب الثانية. خصصت دول الاتحاد نصف مليار يورو لتوفير أسلحة الى أوكرانيا، في إجراء تاريخي أوروبي لدعم عسكري خلال نزاع. المفاجأة الأكبر جاءت من ألمانيا، حيث اتخذ أولاف شولتس، المستشار الذي تولى منصبه منذ أشهر معدودة فقط، قرارات تشكّل انفصالا تاريخيا مع عقيدة برلين، بتسليم كييف أسلحة فتاكة خلال الحرب. لم تكن ألمانيا الوحيدة التي تقوم بخطوة وطنية تاريخية كهذه، اذ لاقتها السويد وفنلندا بدعم كييف بالسلاح. أرفق شولتس خطوته بقرارات داخلية تعكس مدى التغيير الذي فرضه الغزو الروسي: ستخصص برلين 100 مليار يورو لتحديث منظومتها الدفاعية، وتبدأ باستثمار أكثر من 2% من إجمالي الناتج المحلي سنويا في المجال الدفاعي، بعدما كان ضعف موازنتها العسكرية مقارنة بنظرائها في الأطلسي، محل انتقاد خصوصا من واشنطن. إحراج الصيني لروسيا أيضا حلفاء وأصدقاء في العالم، مثل فنزويلا ورئيسها نيكولاس مادورو، أو إيران التي دعت الى وقف الحرب لكن حمّلت مسؤوليتها لواشنطن. على المكيال الآخر في ميزان العلاقات الدولية، تقف الصين برئاسة شي جينبينغ. تجد الصين نفسها الآن تحت مجهر الغرب بشكل إضافي، خصوصا لتبيان الى أي مدى ستتمكن من أن تعوّض لروسيا، آثار العقوبات الاقتصادية الغربية. سياسيا، تمضي بكين بحذر بين النقاط: فعلى رغم عدم إدانتها الصريحة للغزو، امتنعت عن التصويت في مجلس الأمن على قرار يدينه، ولم تستخدم حق "الفيتو". كمذلك، حضّت الطرفين على التفاوض، وأعربت لكييف عن "أسفها الشديد" للحرب. ويرى واين أن بكين في موقف "محرج"، فكلما "طال أمد النزاع وأصبح أكثر دموية، كلما سيكون أصعب على الصين تحقيق توازن بين دعمها المتطلبات الروسية ورغبتها في عدم تلقي مزيد من العتاب عبر الأطلسي". التهديد النووي يطلّ برأسه أمر بوتين، وخلال لقاء متلفز مع مسؤولين عسكريين الأحد، بوضع "قوات الردع" في حال تأهب، وهي وحدات هدفها ردع هجوم "بما في ذلك في حال حرب تتضمن استخدام أسلحة نووية". رأى العالم في هذا الاعلان تلويحا من بوتين باحتمال اللجوء الى السلاح النووي ردا على الضغوط الغربية. اعتبرت واشنطن أن ذلك يعني أن الرئيس الروسي "يواصل تصعيد هذه الحرب بطريقة غير مقبولة على الإطلاق"، بينما رأى حلف ناتو أن الإجراء "خطر"، ويعكس "سلوكا غير مسؤول". وبحسب كريبس، أعطى "القادة الروس بطريقة مكشوفة، إشارات متكررة الى ترسانتهم النووية على أمل ثني الغرب عن تعزيز الدفاعات الأوكرانية"، محذّرة من أن ذلك سيؤدي الى "تآكل المحظور النووي القائم منذ عقود". وعلى أرض الميدان، واصلت القوات الروسية هجومها الأربعاء على الكثير من المدن الأوكرانية، خصوصا خاركيف حيث قتل أربعة أشخاص على الأقل وأصيب تسعة آخرون في قصف روسي استهدف مقرا للأجهزة الأمنية، فيما اتهم الرئيس الأوكراني موسكو بالسعي إلى "محو" أوكرانيا. وأعلن الكرملين الأربعاء أن الوفد الروسي مستعد لاستئناف محادثات السلام مع أوكرانيا. وأوضح الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف: "وفدنا سيكون جاهزا لمتابعة المحادثات". وقال إن فلاديمير ميدينسكي، مساعد الرئيس فلاديمير بوتين سيستمر في ترؤس الوفد الروسي في المحادثات بشأن أوكرانيا، من دون ذكر المكان الذي ستعقد فيه الجولة التالية من المفاوضات. وعقدت الجولة الأولى من المحادثات بين الوفدين الروسي والأوكراني عند الحدود الأوكرانية-البيلاروسية، لكنها لم تسفر عن نتائج. وقال مستشار وزير الداخلية الأوكراني أنطون غيراشتشنكو "عمليا، لم تعد هناك منطقة في خاركيف لم تسقط فيها قذيفة مدفعية بعد" في شرق البلاد. وأعلن الجيش الروسي سيطرته على مدينة خيرسون في جنوباوكرانيا. وأوضح الناطق باسم وزارة الدفاع إيغور كوناشينكوف في تصريحات تلفزيونية إن "الوحدات الروسية في القوات المسلحة سيطرت بشكل تام على خيرسون". وكان الجيش الأوكراني أعلن في بيان فجر الأربعاء أن "قوات روسية محمولة جوا أنزلت في خاركيف". وتم الإبلاغ عن معارك في هذه المدينة. انسحاب مصرف سبيربنك من أوروبا من جانبها، قالت وزارة الدفاع الروسية إن قواتها التي تقدمت عبر الساحل من شبه جزيرة القرم انضمت إلى القوات الموجودة في منطقة دونيتسك الانفصالية الموالية لروسيا، ما يوفر رابطا استراتيجيا للقوات الروسية. ويبدو أن بوتين مصمم على مواصلة هجومه، رغم الضغط الدولي المتزايد. والثلاثاء، أعلنت محكمة العدل الدولية التي قدمت أمامها أوكرانيا شكوى ضد روسيا لدفعها إلى وقف الغزو، أنها ستعقد في السابع من مارس والثامن منه جلسات حول الحرب في أوكرانيا حيث تشتد المعارك. وقبل أيام، استبعدت "بعض المصارف الروسية" من نظام "سويفت" للتحويلات المالية الدولية. ونتيجة لذلك، أعلن مصرف سبيربنك الروسي الرئيسي الأربعاء انسحابه من الأسواق الأوروبية بعدما طالته عقوبات مالية واسعة ردا على غزو موسكولأوكرانيا. وقال المصرف في بيان أوردته وكالات الأنباء الروسية "في ظل الوضع الراهن، قرر سبيربنك الانسحاب من السوق الأوروبية. تواجه مصارف المجموعة سحوبات غير طبيعية وتهديدات بشأن سلامة موظفيها ومكاتبها". وفي السياق نفسه، أعلنت المجموعات الأميركية لإصدار بطاقات الدفع فيزا وماستركارد وأميريكن إكسبرس الثلاثاء أنها اتخذت إجراءات لمنع المصارف الروسية من استخدام شبكاتها. كذلك، أعلنت الكثير من المجموعات الأميركية العملاقة من إكسون موبيل وآبل مرورا ببوينغ وفورد الثلاثاء، أنها ستبقى على مسافة مع روسيا. النفط يسجل أسعارا قياسية وأعلن جو بايدن إغلاق المجال الجوي للولايات المتحدة أمام الطائرات الروسية، حاذيا حذو الاتحاد الأوروبي وكندا. ونتيجة هذه الضغوط، استمرت أسعار الطاقة التي تعد روسيا أحد مورديها الرئيسيين في العالم، في الارتفاع الأربعاء. كذلك، واصلت أسعار النفط الارتفاع الأربعاء مع تجاوز سعر برميل خام برنت 110 دولارات للمرة الأولى منذ العام 2014، قبل اجتماع منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) وحلفائها المقرر الأربعاء. والأمر مماثل بالنسبة إلى أسعار القمح والذرة التي وصلت إلى مستويات قياسية في أوروبا. ويستمر نزوح الأوكرانيين، خصوصا إلى الدول المجاورة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وكذلك إلى مولدافيا. ارتفع عدد اللاجئين الفارين من أوكرانيا إلى البلدان المجاورة مجددا، ووصل إلى 836 ألف شخص. واستمرت طوابير طويلة من السيارات في التوجه نحو الحدود البولندية من مدينة لفيف في غرب أوكرانيا والتي أصبحت بوابة خروج ومركزا للإجلاء. بدوره، قال رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل جروسي نقلا عن معلومات من موسكو إن القوات الروسية تسيطر الآن على أكبر محطة للطاقة النووية في أوكرانيا. وجاء في رسالة من السفارة الروسية إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن العاملين في محطة الطاقة النووية زاباروجيا يواصلون العمل لضمان التشغيل الآمن. كما يقال إن مستويات الإشعاع طبيعية. وقال مستشار وزارة الداخلية الأوكرانية، أنطون هيراشتشينكو، إن القوات الروسية تسعى أيضا للاستيلاء على محطة جنوبأوكرانيا للطاقة النووية. وشوهدت عدة طائرات هليكوبتر تتجه في هذا الاتجاه. واستولت وحدات روسية على محطة الطاقة النووية المغلقة في تشيرنوبيل الأسبوع الماضي. وزادت قراءات الإشعاعات بشكل طفيف في موقع الكارثة النووية التي وقعت عام 1986 بعد أن أثارت المركبات العسكرية التربة الملوثة بالإشعاع هناك.