كم من مستخفٍّ بغيره جرى القدر بوضعِهِ وَرَفْعِ من يستخف به، على أن المُنتَظَرَ ممن على شاطئ السلامة أن يبذل السبب في إنقاذ من يراه يغرق، لا أن يتندَّرَ على غَرَقِه، وبَذْلُ السببِ فيمن قصَّر في الطاعات معروفٌ مسنونٌ.. بسم الله الرحمن الرحيم الإنسان غير المعصوم عُرضةٌ للفتور والتقصير، فمن مُقلٍّ منه كثر صوابه واستقام توجهه وقلَّ تقصيره فيما ينبغي له التشمير فيه، ومن كثيرِ التقصيرِ قليلِ العنايةِ بالمنافع الدينية والدنيوية، ومن مُخلدٍ إلى الهوى مُطاوعٍ للنفس لا يفطمها عن عادةٍ سيئةٍ، ولا يحملها على ما يشقُّ عليها من الفضائل والأعمال الصالحة، وهذا من حكمة الله تعالى، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، ولا يخلو ذلك من ابتلاءٍ كما قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)، وإذا كان كُلٌّ منا غيرُ معصومٍ من أن يقع في التقصير هو بنفسه، وغير معفًى من أن يرى مقصرين ومتكاسلين، فما أجدر بنا ألا نهمل القواعد المتعلقة بالنظرة التي ينبغي أن ننظر بها إلى المقصر؛ لأن الضعف من طباع البشر المتجذرة، ولي مع الموقف من أهل التقصير وقفات: أولاً: من أهم ما يُبادرُ به من رأى غيره واقعاً في التقصير أن يتفقد نفسه بعين البصير الذي لا يُجاملُ ولا يتغاضى عن هفوات نفسه، فينظر: هل هو مقصِّرٌ فيما يرى غيره مُخِلّاً به؟ فبعض الناس عينه كالمجهر في اكتشاف عيوب الآخرين، وتكون له جبالٌ من الأخطاء فيتعامى عنها، ولمثله يقال في المثل: (تُبصرُ القذاةَ في عين أخيك، وتعمى عن الجِذْعِ في عينك)، فالمنصف من يُنبِّهُهُ ما يراه من تقصيرِ غيره على محاسبة نفسه، فإذا رأى متكاسلاً عن الصلاة تفقَّدَ صلاته، وحاسب نفسه على ما شَابَهَا من قصورٍ ظاهرٍ أو باطنٍ، وإذا رأى مُفرِّطاً في حقِّ أبويه دقَّق في علاقته هو بأبويه أمستقيمةٌ هي أم مُعوجَّةٌ؟ أمُقصِّرٌ فيها أم مُجتهدٌ؟ ولا يكتفي بمجرد شعوره بالرضا عن نفسه، فالمخطئ قد يكون راضياً عن موقفه مُتصوراً أنه على صوابٍ، ولو بُثَّتْ لنا مشاعرُ كثيرٍ من العاقِّين لوالديهم والناكرين للجميل، والكائدين لأمن العباد لَظَهَرَ لنا أن التقصير بلغ بهم درجة عدم استشعار ما هم فيه، فلم تَعُدْ مشاعرهم تتأثر بشيء، وليس ذلك بغريبٍ فإن الضمير إذا كثرت عليه وخزات استشعار التقصير أماتته، وقديماً قيل: مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهوانُ عليه ... ما لجرحٍ بمِّيتٍ إيلامُ ثانياً: ينبغي أن يحرص من رأى غيره مقصِّراً على ألا يقع في محظورٍ آخر، وهو الاعتداد باستقامته، والحكم على أخيه المقصِّر بأنه لن تقوم له قائمة، فالتقصير إن كان في الطاعات فاعتداد الإنسان بطاعته والحكم على المخطئ بالهلاك كبيرةٌ تُحبطُ الأعمال، فعن جُنْدبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدَّثَ "أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ"، أخرجه مسلم، وإن كان في أمور المعاش فالبلاء مُوكلٌ بالمنطق، فكم من مستخفٍّ بغيره جرى القدر بوضعِهِ وَرَفْعِ من يستخف به، على أن المُنتَظَرَ ممن على شاطئ السلامة أن يبذل السبب في إنقاذ من يراه يغرق، لا أن يتندَّرَ على غَرَقِه، وبَذْلُ السببِ فيمن قصَّر في الطاعات معروفٌ مسنونٌ، وقد نُقِلَتْ لنا كيفية إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم للمقصرين في أعمالهم، حتى إنهم ليصرحون بإعجابهم بما صنع معهم، ويعترفون بتأثرهم بتلك المعالجة الناجعة، وأما التقصير في شؤون الحياة والتقصير في اختيارات الاتجاهات الملائمة لقدرات الشخص، فالتاريخ مليءٌ بقصص من ينجحون من انتشال المقصر بواسطة كلمةٍ طيبةٍ محفّزةٍ، ونصيحةٍ مُشجعةٍ، فمن استطاع أن يُعلِّمَ بلطفٍ ويُسْرٍ فليفعل، وإلا فَلْيَكُفَّ شرَّه فمعالجة الداء بالسُّمِّ مُهلكةٌ. ثالثاً: من الخطأ الفادح الحكم على الناس بالتقصير بواسطة التحاكم إلى قناعاتٍ شخصيةٍ، واجتهاداتٍ مُرتجلة، فمن كان ميزان خطأ الآخرين عنده مجرد الاختلاف معهم فهو المخطئ الذي يُفترضُ أن يُعالجَ غلطه، وقد خفي عليه أن أول درجات معالجة الخطأ التأكد من وجوده ومن موانع التخطئة به، فبعض التصرفات خطأ إن خَلَتْ من قيودِ تسويغها، وهي صوابٌ إن وُجد ما يُسوِّغُها، فقبل أن تقول: فلان أخطأ في كذا تأكد من كون ذلك مقتضياً للتخطئة من أساسه ثم تأكد من خلوِّ مرتكبه من عذرٍ شرعيٍّ حَمَلَهُ عليه، وهذا من بدهيات فقه الاحتساب، ومن أخطر الأشياء أن يقتحم هذا المجال العظيم من لا علم له به، فيستبيح عرض من شاء إذا خالف رأيه، ويحكم على من شاء بما شاء، وهو مذهب الخوارج على مرِّ العصور، وبه تتفاقم شرورهم.