في الجزء الأول من هذا المقال ("الرياض الثقافي" - السبت الماضي) مهدتُ للعمل الذي تكرَّست له جُوَانَّا ڤان غوخ، بعد وفاة زوجها تِيُو، لتنفيذ رغبته/الوصية بتنسيق لوحات شقيقه الرسام ڤِنْسِنْت وتسويقها وجمع رسائلَ له بالمئات. هنا التتمة عن دور هذه المرأة الأَساسي في شهرة الرسام الذي قضى شابًّا ولم يذُق الشُهرة على حياته. تَرَسُّلُ امرأَة وفية بين وفاة زوجها (1891) ووفاتها (1925، أَي بعد 35 سنة على وفاة الرسام سنة 1890) أَمضت جوانَّا نحو 40 سنة تعمل على نشْر هذا التراث الكبير. راحت تعرض لوحات منتقاة وتحث النقّاد أن يكتبوا عنها. أَعارت بعض المتاحف لوحاتٍ لتعرضها وأَقامت معارض كثيرة بين 1891 و1925 فباعت 192 لوحة و55 رسمًا على الورق. سنة 1914 نشرت جُوَانَّا 40 رسالة من الرسام إِلى شقيقه تِيُو، وكتبَت لها مقدمة بيوغرافية. وبصدورها انكشف الرسام لكثيرين أَخذوا يقْبِلون على أَعماله. أَما الرسائل إلى ڤِنْسِنْت من شقيقِه أَو من سواه فكان يُحرقها فورًا بعد قراءَتها، ما يدل على شخصيته ومزاجه وطبيعته المتقلِّبة. وهكذا يَثبْتُ أَن ڤان غوخ، برغم براعته رسامًا، ما كان يمكن أَن يَبْلُغَ ما بلغَه عالميًا من شُهرة وخُلود لولا جهود زوجة شقيقه جُوَانَّا. العمل الدَؤُوب كانت جُوَانَّا ترغب في الانصراف إِلى العمل الاجتماعي لكنها نسيَت حالها وانصرفَت كلِّيًّا إِلى الاهتمام بالإِرث الكبير بين يديها. وهي لم تكُن بعيدة عن الثقافة، إذ درسَت الإِنكليزية، وكانت عازفة پيانو، وعملت فترةً في لندن لدى مكتبة المتحف البريطاني. تزوَّجت تِيُو سنة 1889 بعد قصة حب عاصفة، ووَلَدت بكْرها (ووحيدها) سنة 1890 ليموت زوجها بعد سنة (1891)، وكانت تسكن معه شقَّةً في پاريس تتكدَّس فيها نحو 200 لوحة. كانت تعلَّمَت منه مهنةَ تجارة الأَعمال الفنية، وساعدتْها براعتُها في العلاقات العامة فاتصلت بعد وفاته بأَعلام الوسَط الفني، كي تنفِّذ وصية زوجها وتنشُر اسم شقيقه وأَعماله. براعة التسويق بين 1892 و1900 كانت جُوَانَّا شاركت بعرض أَعمالٍ من ڤِنْسِنْت في نحو 20 معرضًا جَماعيًّا، فاشتهرت أَعمالُ ڤان غوخ وراحت تتنقَّل من معرض إِلى معرض. وفي يومية 29 سبتمبر 1892 كتبَت جُوَانَّا: "منذ جئتُ من پاريس إِلى هولندا أَخذ الناس يهتمُّون بأَعمال ڤِنْسِنْت، والصحافة تكتب عنه باطِّراد". وكانت جُوَانَّا أَكثر مهارةً في التسويق إِلى أُوروپا الغربية من زوجِها وسلْفها الفنان. كانت تُعطي عمولةً بين 10 و15 % لكل من يُسَوِّق أَعمال ڤِنْسِنْت في العالم، وفي نحو عشر سنوات من العمل الدؤُوب والتسويق البارع، تمكنَت جُوَانَّا من بسْط أَعمال ڤِنْسِنْت في معظم أُوروپا. بين أَبرز ما قامت به للتسويق: معرض ضخم سنة 1905 في "متحف سْتيديليك" (أَهم متحف في أَمستردام للفن الحديث، تأَسَّسَ في 14 سبتمبر 1895) جمعَت فيه 484 عملًا بين لوحات ورسوم، كان أَضخمَ معرض في تاريخ مسيرته الفنية. وهكذا حقَّقَت شهرةً لم يستطع أَن يحقِّقها زوجها وشقيقه الرسام انتشارًا وتسويقًا. اليوم تتصدَّر أَعمال ڤان غوخ معظم متاحف العالم والكتب الفنية والمواقع الإِلكترونية. وإذ يشاهدها ملايين، قليلون بينهم من يعرفون أَن وراءَ هذه الشهرة العالمية امرأَةً تَرَسَّلَت لها، اسمُها جُوَانَّا ڤان غوخ، وَفَتْ بوصيَّة زوجها: جعلَت أَعمال ڤان غوخ قضيتَها فَرَفَعَت قضيتَه الفنية حتى إن لوحته "الدكتور غاشيه" (رسمها ڤان غوخ قبل وفاته بأسابيع لطبيبه پول غاشيه سنة 1890) بيعت بعد 100 سنة في مزاد 1990 بمبلغ 82 مليون دولار مسجِّلةً بذلك أَغلى لوحة تباع في تاريخ الفن التشكيلي العالمي حتى ذلك العام. صورة نادرة: ڤان غوخ الفوتوغرافيا، ورسم ذاتيّ بريشته «الدكتور غاشيه» بريشة ڤان غوخ: أَغلى لوحة في العالم