«قال الرسول عليه الصلاة والسلام: «إذا مرض العبد، أو سافر، كُتب له مثلُ ما كان يعملُ مقيما صحيحا» وأولى الأمراض بهذا ما جرت في العادة عدواه؛ لأن بقاءك في منزلك أخذ بالرخصة، ودفع مضرة عن غيرك، وما كان فيه مصلحتان مقدم على ما فيه مصلحة واحدة..» خُطب الجمع نافذة توعية وباب إصلاح، انتفع الناس منه واستفادوا مما فيه، طرقَ الأئمة بين أيديهم مواضيع شتّى ومسائل متفرّقة، أَثْرتْ معارفهم وزادت حصيلتهم، ورجعوا بالزاد العلمي إلى بيوتهم، ومَنْ أبصر أثر الخطبة، ووجد على الناس آثارها؛ رجا في مثل هذه الأوقات التي تعتاد الناسَ فيها الإنفلونزا، وتمر عليهم، رجا أن يعرض الخطباء لهؤلاء الذين تزورهم الإنفلونزا ثم يقدمون بما هم عليه من حال معروفة، واحتمال عدوى غيرهم بما أصابه، إلى بيوت الله تعالى، وربّما أهدوا إلى المصلين القريبين منهم ما أصابهم من حرارة وعقابيل عِلّة، فكانوا سبباً بعد تقدير الله في نشر العدوى وفشوها بين الناس. الأديان تُشرع أمرين: الأول: مبادئ عامة، ترجع إليها جزئيات كثيرة، يستطيع صاحب الدين الموفق أن يُلحق بها كلّ ما يجدّ مما يُجانسها وتنطبق أحكامها عليه ويصح إدراجها فيه. والثاني: جزئيات وأفراد، تكون دعوة زمنية، تُمثّل الحال في ذاك العصر، وقد تستمر بعد ذلك في كل عصر، ومتى اقتضتها ظروف تُحاكي ما كان أولا. وإذا كان المسلم، والمتدين بأي دين سماوي، يسهل عليه العمل بالثاني، وتراه منساقا وراءه بفعل العادة أحيانا وبفعل التعلم أحيانا أخرى؛ فإنّ الأول صعبٌ، ويقلّ مَنْ يُهدى إليه، وهو روح الدين الكبرى، وعليه بُنيت كلّ الجزئيات والأفراد، ولعلي أُنّبه القراء الكرام إلى هذه القضية وأُقدم لهم إضاءة في التفريق بينهما من حيث هذه المسألة. المتعلمون يجدون سهولة في استيعاب القاعدة من خلال المثال، ويستطيعون تطبيقها عليه لو أردتهم على ذلك، فيرفعون الفاعل في الجملة التي أوضحتها لهم وقرّبت القاعدة إليهم من خلالها؛ لكنك لو غيّرت الجملة، وأبدلتَ الفاعل بغيره؛ وجدتّهم كثيرا منهم حائرين مرتبكين، وهم إنما طُولبوا بإدراج مثال قد شُرح مثله وبُيّن بغيره أمره! هذا في قواعد اللسان، وهي قواعد جزئية، يصعب على المرء إدراج ما تنطبق عليه فيها، وإدماج ما تشمله في ثناياها؛ فكيف لو كانت القاعدة كُليّة دينية وأخلاقية كتلك القاعدة التي يدور حولها المقال، وأسعى فيه أن ألحق الإنفلونزا بالثوم والبصل من باب أنّ مَنْ احتاط للناس في الروائح الكريهة قريبٌ منه أن يحتاط لحقوقهم في الأمراض المؤذية! إن الحديث عن الإنفلونزا الموسميّة يجدر بالخطباء أن يجعلوه موسميّا، يُوجهون فيه نصحا لأولئك الذين تحملهم حرارة التدين على الحضور للجماعة، وتمنعهم صلابته من المكوث في بيوتهم، لعلهم بالحديث المكرور، والتناول المعاد، يفطنون إلى ما هو إن شاء الله تعالى خيرٌ لهم وأقوم سبيلا. مما لم أزل أذكره وأتذكّره من أحاديث المصطفى، حديث عظيم، فيه معان عجيبة، وطمأنينة كبيرة، تجعل المسلم لا يأسى على الجماعة إن فاتتها، وأجرِ حضورها إن دعت الملمات إلى تخليه عنه، حديث صحيح يجب على كل مسلم أن يُبلّغه أولاده، وينشره بين أحبابه؛ لما فيه من تطييب خاطر المريض وإشعاره برحمة الله العميمة، فيجد سلوةً في هذا حين منعه المرض، وحال بينه وبين قصدان المسجد، فيه قال الرسول عليه الصلاة والسلام:" إذا مرض العبد، أو سافر، كُتب له مثلُ ما كان يعملُ مقيما صحيحا" وأولى الأمراض بهذا ما جرت في العادة عدواه؛ لأن بقاءك في منزلك أخذ بالرخصة، ودفع مضرة عن غيرك، وما كان فيه مصلحتان مقدم على ما فيه مصلحة واحدة. في الحديث أمران، أحدهما ظاهرٌ بارز، والآخر خفيّ متوارٍ، الظاهر أن المريض ينال أجر ما كان يأتيه قبل مرضه، ويحوز من الثواب ما كان يعمله، فكل ما يعوقه المرض عن أدائه، وكان ينهض به ويستجيب لأمر الله فيه؛ فهو مُعطاه وممنوح إياه، وهكذا تبين رحمة الله تعالى به، حيثُ لم يجتمع عليه المرض ونقصان الأجر. والخفيّ المستتر أنّ لفظ الحديث صريحٌ أن الأصل في المريض أن يدع ما كان يأتيه، ويُجهد نفسه للقيام به، وأظهر دلائل ذلك أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام ترك الإشارة إليه والإلمام به، فلم يقل: "وترك عمله، أو ما كان يقوم به" والترك يُومئ إلى أن هذا (وأقصد: ترك العمل مع المرض) مما لا ينبغي التشاغل به والجدل حوله، فهو محسوم مفروغ منه، إنه من مسلّمات الناس وبداهاتهم، التي لا يجدر بأفصح الناس وأزكاهم بلاغة أن يَلتفت إليه، ويُخبرهم بما عندهم فيه! وإذا كانت الآثار قد جاءت بنهي المسلم أن يأتي مسجده، وقد أكل ثوماً أو بصلاً، حتى جاء في مسلم عن الفاروق أنه قال:" لقد رأيت رسول الله إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأُخرج إلى البقيع" فما بال أحدنا يأتي إلى المسجد، وفي أردانه مرض يُقعد صاحبه؟ أيُريد ممن حوله أن يأخذوه ويمضوا إلى البقيع أو ما شابهه به؟!